إرساء العلاقات الاجتماعية على أسس وقواعد متينة توفر لأفراد المجتمع الاستقرار والتوازن النفسي والوجداني من أهم جوانب التعاليم الإسلامية ، فهذه التعاليم لا تقتصر على التوجيهات الخاصة بالعلاقة بالله -عز وجل- بما يقتصر على جانب العبادات والمعاملات المالية ، بل تمتد إلى جميع جوانب حياتنا وأبعادها الاجتماعية والأخلاقية ، بما يشكل ومضات منيرة تضيء دروبنا في الحياة فنكون على هدى من أمرنا في كل ما نقدم عليه ، فالنفس البشرية وحشية في آمالها وخطاها تجمح بصاحبها وتقتحم به العقبات وتتيه به في الدروب الوعرة وتبوء بالخسران ، إن لم تتلق من التعاليم ما يهذبها ويرشدها نحو الطريق المنطقي المبني على هدى وبصائر العقل الواعي، لا الأهواء المتفلتة والنزوات المستنزفة للقوى والطاقات .
ولذا نجد في هذه الحكمة جانبا مشرقا في خط العلاقات الاجتماعية المستقرة والناجحة ، والتي تخضع في تقييمها واستشراف خطها المستقبلي إلى معايير عقلية واضحة يخضع لها من أحب الظفر بالنجاح الاجتماعي والراحة النفسية ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى الاتجاه نحو البراهين المقنعة في طرحها ، وذلك أننا لو سرنا بمنطق (الخلف) لظفرنا بمطلوبنا؛ إذ أن إثبات النجاح في العلاقات وفق منطق الإكرام والإحسان المتبادل ، يتضح من خلال السير المعاكس، بمعنى تعامل الناس بمنطق الغدر والتجاهل والتحايل والخيانة والنظر بعد ذلك لكيفية انتظام حياتهم وأمورهم ، إذ سيكون منطق الغاب وافتراس الضعيف والانتهازية أسس التعامل بين الناس مما يؤدي إلى فقدان عامل الأمان الاجتماعي وسيادة الفوضى والظنون السيئة بينهم ، وهذا ما يجعل منطق الإكرام المتبادل هو أساس التصالح مع الذات والشعور بالغبطة للسير في مدارج التكامل الأخلاقي والتربوي المتوافق مع الفكر الرشيد الفردي والمجتمعي ، فلا يتصورن أحد بأن الغدر والتحايل على الآخرين يعبر عن نفس متزنة وخالية من الآفات والأمراض الأخلاقية ، كما أن العلاقات الاجتماعية إذا ضربت بفقدان الثقة و الشكوك ستنفصم عراها وتتدهور نحو التفكك والاستيحاش من الغير ، وأما التعامل بمنطق رد المعروف بمثله وصنع المعروف وتوجيه تحايا الإكرام والإحسان لمن قدم لنا معروفا هو عين الصواب ، والمحقق لعلاقات اجتماعية وازنة تتكئ على الاحترام والتعاون .
من الدوافع المحركة لبث ثقافة وتربية إكرام الآخرين ماديا ومعنويا هو رد الجميل وصنع معروف مثله ، فذلك يوثق عرى العلاقات بين أفراد المجتمع ويجمعهم على المودة والاحترام والتعاون والثقة المتبادلة ، وهذا الالتزام أخلاقي يستشعر الفرد من خلاله بأمانة ملقاة على عاتقه وفي رقبته ، ولا يمكنه أن يعتبرها إلا تحية وهدية لابد من ردها بمثلها أو أحسن منها ، ولا ينكر الجميل ويجحد المعروف وتتجاهل ذاكرته المثقوبة ما أسدي إليه إلا لئيم وانتهازي لا يقيم وزنا للمعايير الأخلاقية ولا يكترث لوجد الآخرين فضلا عن إقامة علاقات ناجحة معهم ، فاللئيم الجاحد يرى الآخرين بعين ضيقة ونفس ممتلئة بالحقد أو البخل المانع له من فعل المعروف أو تكبر لا تسمح له نفسه أن ينزل للآخرين من برجه العاجي.
وعلى الضفة الأخرى هناك من يقبع على تلة الاستهزاء والاستخفاف بالآخرين وينظر إليهم من أعالي برجه وكأنهم أقزام ، هل يمكن ردعه بالتعامل بالمثل بمقتضى التعالي والاستكبار والتجاهل لوجوده ، أم أن ذلك يعني انسلاخا عن القيم الأخلاقية النبيلة ودخولا في متاهات الصراعات الهامشية المستنزفة لطاقاتنا وجهودنا ، مما يبعدنا كثيرا عن خط الأهداف التي نسعى جاهدين لتحقيقها ؟.
مبدأ التجاهل والتغافل عن صغائر الأمور والقضايا الجانبية سيعطينا المزيد من الوقت والتفرغ والجهد للتوجه نحو معالي الأمور ، فمن يعطي بالا واهتماما لأصحاب النفوس المريضة والمصابين بانتفاخ الذات سيتعب في نهاية الأمر وبعد فترة سيجد نفسه لا شغل له إلا بمواجهتهم وتهيئة نفسه لمبارزتهم في حروب اجتماعية استنزافية لا جدوى ولا ثمرة منها أصلا ، والطريقة الصائبة والمنطقية للتعامل مع المستخفين بالآخرين هو إكرام النفس عنهم ، فمن وجد مثلهم في طريقه فلن يستطيع المحافظة على مكتسباته ومكانته واحترامه لنفسه إلا من خلال تجنب و حاشي الدخول في مواجهة ونقاشات عقيمة معهم .
ورد عن الإمام الصادق (ع) قوله: من أكرمك فأكرمه ، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه )(بحار الأنوار ج ٧١ ص ١٦٧) .