إلى الأزقة ذات الأرض المتشققة، والتي انزوت بين جوانبها أغصان ضعيفة خضراء نضرة، تحمل على رأسها ورودا صفراء صغيرة، إلى تلك التي خرجت صدفة على استحياء دون غرس أو انتظار حصاد.
إلى المسافات الطويلة التي تفصلني عن ديار لطالما كان يسمع من خلف أبوابها ضحكات عبثية، تخرج من قلوب أصحابها.
إلى الابتسامة الندية التي تملأ وجه أمي في كل وقت وحين ، إلى الشكر الذي يغمر قلبها والرضا الذي كانت تعلمنا إياه في كل دقيقة.
إلى أبي وإخوتي وغرفتي، إلى كتبي ومنشفتي، إلى باحة بيتنا وشجرة التين، إلى الدوري الذي كان يزقزق على نافذتي كل صباح، ومزمار الباص الذي يقلني إلى المدرسة.
إلى أساتذتي، والمدير وحارس السور والأبواب، إلى غرفة الرياضة والحاسب ومقصف المدرسة، إلى الوكيل الذي كان لا ينفك عن توجيهنا.
إلى الرفقة والأصدقاء، وشوارع كنا نجوبها قبل أن ندخل منازلنا، إلى الشمس التي كانت ترافقنا، والسماء التي تبتسم لنا خجلا من كثرة نظرنا إليها حين نتسامر في الليل ونعد نجومها.
أرسل إليكم بوح، ببضع كلمات، أثقلت روحي، وعصرت فؤادي، بعد مضي 5 سنوات منذ أن تركتكم، وذهبت أتهادى الفيافي والغفار في موطن لا يشبهني، وشوارع أضاعتني، وشمس لا تراني، ونجوم لا تعرفني، وهدوء أشبه بالسكون في الفضاء، وصخب أزعجني حتى إن صرخت فلا أحد يسمع صرخاتي، أو يبالي بها.
بلاد بلا روح، رغم كثرة سكانها، بلا حب، رغم كثرة تناسلها، بلا دفئ رغم كثرت مدافئها، جمالها ساحر، ورقيها آخذ، بينما تفتقر إلى رائحة طبخ أمي، وخبز جدتي، وحنان أبي، لا تعرف العيد الذي يأتي بعد شهر رمضان، ولا تعرف أن تطوف حول كعبة الرحمن، بلاد لا أسمع فيها صوتا للأذان، ولا أرى فيها قبابا أو زخرفة للأبواب، كل شيء فيها جميل لكنه لا يشبه الجمال الذي أعرفه، كل شيء فيها متزن، لكنها تفتقد إلى شقاوتنا، وذكريات طفولتنا.
مضى نصف الوقت، وبقي مثله، هل تعتقدون بأنني سأبقى صامدا، في كل مرة أكتب إليكم رسالة من زمن الغربة وأبعثها إلى زمنكم، هل كبرتم مثلي سنة عن كل شهر؟ هل تعدون الأيام فتعجزون عن حصرها؟ هل تقرؤون ما أكتب؟ وتنظرون إلى أحرف رسالتي بقلوبكم لا بأعينكم؟ هل أنا فقط من يتحدث عن الغربة هكذا؟ أم أنه يوجد مثلي مئات آخرون؟ أرشدوني إليهم لأضم عزائي بعزائهم لعلنا نتسلى، وتمضي الأيام والسنون إلى حين عودتنا.
هدنة…. للعودة مفاتيح، ومفاتيحها أنواع:
منها ما قد صدأت مفاتيحها فلم تعد صالحة لفتح الذكريات والعودة من جديد.
ومنها ما قد ضيعت لطول الأعوام، فلن يكون للعودة أهمية فقد ضاعت مفاتيح الحب والوئام، بين زحام الحياة.
ومنها ما قد سرقت، ومعها سرقت كل آمال العودة، فلم يعد في الوجود مفتاح ولا باب ولا ديار.