الحديث عن الذات أمرٌ شاق ، و يحتاج إلى وقتٍ طويل بمجرَّد الحديث ، فضلاً عن الكتابة أو الشعر أو الرسم ، أو تجسيد هذه الذات بأي طريقة فنّية أو إبداعية كانت.
الذاكرة القوية التي ترصد المواقف الكثيرة تُنهك صاحبها كثيراً في عملية التفريغ. فبين ما يوغر الصدر وما يُثلجه ، يعيش الإنسان ما بين مدّ وجزر ، وحلّ وترحال في أعماقه.
هناك أشياء ثمينة ، قابعة في صندوق الذاكرة، تحتاج لإزاحة الغبار عنها و الظهور للملأ ببريق كي يَحتَفوا بها ، ويُتحَفوا أيضاً.
و قد يكون هذا الظهور إما مقروءاً أو مسموعاً أو مكتوباً أو مرسوماً أو مرئياً.
ليس مهماً كيف يُولَد، بل الأهم ولادته بأي طريقة إبداعية كانت حتى لايندثر.
كثير من الكتب العالمية التي حققت نجاحاً ساحقاً على الصعيد الشعبي هي في أصلها حزمة تجارب أو خبرات أو قصص نجاح أبهرت الناس فتلقفوها بشغف، لأنهم وجدوا أنفسهم بها ، و وجدوها تمثّلهم و تحكي عنهم. شعروا بأنهم أبطال تلك القصص المدويّة، فمثّلوها بنجاح لأنها مثَّلتهم بإتقان.
نجاح هذه النوعية من الكتب يبعث برسالة ضمنية قيَّمة مفادها أن تجاربنا المُهمَلة قد تكون ذات قيمة عالية لمن يتلقاها من الغير.
تجاربنا التي لا نمحنها أي قيمة قد تكون مفاتيح نجاحات ساحقة لبعضهم.
أنا على يقين بأن كل فردٍ منّا يمتلك ترسانةً من المواقف و الذكريات والتجارب الجديرة بالإظهار للناس، لكن يبقى العائق الحقيقي في ماهية و كيفية الإظهار !
مَن لم يجد في نفسه الموهبة ، أو لم يفتّش عنها في أعماقه كي يكتشفها ، فسوف يسافر معه هذا الشعور بالإحباط طويلاً، وأعني بذلك إحباط عدم القدرة على إفشاء الجمال الداخلي القاطن في غَوره لعدم وجود الوسيلة الإبداعية لإفشائه.
فالتشكيلي يرسم نفسه في لوحاته ، والكاتب يجسّد نفسه في كتاباته ، والشاعر يصوّر نفسه في قصائده.
لايوجد شخص غير موهوب ، لكن يوجد شخص لم يكتشف بأنه موهوباً، أو لم يسعَ لاكتشاف ذلك ، و بهذا يكون قد أضاع فرصةً ثمينةً قد تبهجه و تجلب له الحبور طيلة حياته، و قد تمطره بالمال و الشهرة و المجد.
يُخالُ لي بأنَّ البحث عن الموهبة الذاتية هو بحث عن الحياة ، فالموهبة لصاحبها بمنزلة الأكل عند الجائع .
فمن يعيش بلا موهبة يتضوّر جوع الإبداع لديه، و يتعطَّش للذَّته، حياته نمطية ، رتيبة ، لا تحمل إثارةً و لا تَوقاً.
لا يجد مَن يقول له : ما آخر إبداعاتك ؟ ما جديدك ؟ أينك يا مبدع ؟
إنها مفردات رنّانة ، و لها وقعٌ كبير في نفس متلقيها ، و أثرٌ عظيم لا يبرحه أبداً.
مقاييس تلقي العبارات الرنّانة والمشاعر الفياضة تختلف من شخصٍ لآخر ، فالفنان أو المبدع مجملاً يقرأ الأمور من زوايا مختلفة ، و يمنحها صبغة مغايرة ، و يمطرها بتقييم عالٍ يفوق ما سواه.
أحاسيسه مرهفة ، سريعة الخدش ، و روحه نقية ، شفافة كالزجاجة التي تمكّنه من رؤية الكون أجمع.
الأفكار الجميلة دائماً ما تهبط علينا في الوقت و المكان غير المناسبَين ، و سرعان ما تُحلّق سريعاً ، و تحطّ في بقعةٍ أخرى. لذا ، حريّ بنا أن ندوّن الفكرة قبل أن تلوذ بالفرار.
الفكرة قد تكون بسيطة في بدايتها ، لذا تجد منّا التقليل و عدم الإكتراث ، لكن عندما نعلم أن كل مشروع عظيم كانت بدايته فكرة بسيطة لا تتجاوز إمكانات صاحبها ، حينها سنمنح أفكارنا الصغيرة قيمةً عظيمةً. قيمة مُشتقّة من قيمتها المستقبلية التي يجب أن نؤمن بها ، و نقاتل من أجلها ، و نراهن عليها.
لأن الحاذق هو مَن ينظر لما سوف تكون عليه هذه الفكرة غداً ، و ليس لما هي عليه اليوم.
بعض الأفكار زئبقية، تهبنا مرونةً فائفةً، تتقولب مع أي قالب ، و تتمدّد في أي اتجاه.
تحتاج لمن يعتني بها ، و يمنحها بعض الرعاية.
الناجحون هم مَن اعتبروا مشاريعهم و أفكارهم بمثابة أطفالهم.
اكتنفوها بالحب ، و بذلوا لأجلها الجهد، وأنفذوا لها الكثير من الوقت حتى غدت كالطَود الأَشَمّ الذي يدعو للإعتزاز.
و الفاشلون هم من عاشوا الفشل و هابوا نتائجه من قبل أن يجرّبوه ، ففشلوا بعد ذلك حقاً.
إذاً ، هناك محموم بالنجاح ، و هناك مأزومٌ بالفشل .
لا يوجد أطعم و أجمل من مذاق النجاح الذي يأتي بعد صعوبةٍ بالغةٍ ، لأن ذلك يجعلنا نتذوّق الفرق بتركيزه العالي.
كثير من العظماء خرجوا من تحت الأنقاض بصعوبة بالغة ، لكنهم بعد ذلك انبروا على منصّة النجاح ، و كان وقوفهم بشموخ و ثبات. و كان يخالجهم الكثير من السموّ و الزهوّ و الاعتداد بالذات التي اعتصرت ألماً ، و تجشّمت ذروة البؤس و الشقاء في سبيل الوصول لهذه المنصّة.
أصبحوا يقارعون الصعاب بضراوة ، و يطارحون العقبات ببسالة.
فرصيد هؤلاء الفكري و المعرفي يختلف عن رصيد المنكفئين على أنفسهم ، و الذين اختاروا المكوث في الظل ، أو على اليابسة طويلاً.
كنا نعتبر النصيحة مجرّد ثرثرة ، و رصف كلمات لا قيمة لها من شخص لا يهوى سوى الكلام. و كنا نتنصّل من أي شخص يتصف بنصحه للآخرين ، لكننا اكتشفنا لاحقاً بأنَّ قيمة هذا الشخص تضاعفت بتضاعف قيمة نصيحته التي شعرنا بقيمتها مع مضيّ الوقت.
بعض النصائح لا قيمة لها في وقتها. فهي كالصورة الفوتوغرافية أو التحفة الأثرية التي تتزايد قيمتها بتقادم وقتها.
البعض ظفر بنصيحة ، و ظفر معها بحياته ، و البعض الآخر أهمل نصيحة و خسر معاها حياته ، و البعض الآخر يعضّ أصابع الندم لأنه لم يجد مَن ينصحه أو يوجهه في بداية حياته ، فعاش في وهنٍ و ضعف.
التعليقات 2
2 pings
غير معروف
2015-04-22 في 7:59 م[3] رابط التعليق
المقال طويل لكن محتواه داعي للتامل
شكرا لك
جاسم يوسف الياسين
2015-04-22 في 9:22 م[3] رابط التعليق
للأسف هناك إمكانات وطاقات لازالت خامدة في نفوس أصحابها، فجعلوا الحياة تسيرهم ولم يختاروا السبيل أو الطريق المناسب لتلك الإمكانان.
البعض وللأسف الشديد لديه استجابة قوية للإحباط، عوضا عن استخامها كقوة؛ لإثبات الذات.
هناك من يفشل ويستسلم للفشل، وهناك من يضع هذا الفشل عتبة قوية للصعود لسلم النجاح.
كعادتك ياصديقي العزيز مبدع وكتاباتك ساحرة فيها اﻷمل وفيها تهييج لما هو ساكن في القلوب.
دمتم بود