لنفرض وجود رجلين: أحدهما من أصحاب الملايين، والجاه الطويل العريض، والآخر فقير يهيم في الأرض ولا يأتي بخير، قد أغلقت في وجهه جميع الأبواب،وفشل في كل شيء في الحياة، حتى تحطمت أعصابه، وحاول الانتحار، لأنه السبيل الوحيد لخلاصه فيما يرى.
فقال له صاحب الجاه والمال: مهلا، فإن عندي جميع ما تطلبه أو ما تبتغيه، وأنا على أتم الاستعداد لأمنحك الثراء والكرامة بلا ثمن أو مقابل ولا امتنان، شريطة أن تكون طيبا حسن السيرة وحسن المعاشرة مع الناس، ممدوحا غير مذموم من معارفك، وهذا الشرط-كما ترى- فضل على فضل، ونور على نور، فإن رفض هذا العطاء المشروع لخيره ومصلحته فهو مجنون، وإن تقبله ولم يعمل به خائن محتال، أو ضعيف لا يستحق الحياة، ولا شيء منها في منطق العقلاء.
وقد وهب الله -سبحانه وتعالى- الوجود للإنسان، ولم يكن شيئا مذكورا، ومنحه السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه دنيا تزخر بالخير والهناء، وتفيض بالجمال والبهاء، أعطاه الكون بأرضه وسمائه، وجميع كواكبه، وقال له: تمتع به كمالك أصيل، لا كضيف خفيف أو ثقيل، ولا أبتغي منك جزاء ولا عوض، وإنما الذي أريده شيء واحد، وهو عليك سهل يسير، فليس من شأني التكليف بما لا يطاق، ولا ضرر عليك فيه ولا حرج، أي لا ضرر ولا حرج في شرعي وشريعتي، ولا يحط شيئا من كرامتك، فلقد كتبت على نفسي الرحمة والكرامة للبشر جمعاء، وهذا الذي أدعوك إليه هو عين ما يأمر به العقل والضمير؛ لأنه يعود عليك وحدك بالنفع الجزيل، ولا ينالني منه كثيرا ولا قليلا، فأنا غني عن كل شيء، ولا غنى عني في شيء.
أريد أن تكون صادقا في أقوالك، مخلصا في أفعالك، تنزه نفسك عن الحقد والضغينة، وعن كل ما يشين، إن لم تسم بها إلى ذرى الفضائل والمكرمات.
لقد خلقتك إنسانا سويا، فلا تنتحل صفات الأفاعي والثعالب، إني أريدك عادلا لا ظالما، وصريحا لا مراوغا، ومحبا للإنسان لا عدوا للإنسانية ؛ لأنك بهذا تعادي نفسك بنفسك، بل أريدك محبا لكل شيء، لأن الإنسانية تتسع لكل شيء.
هذا هو عطاء ربك الذي لا تجده عند غيره، حياة، وكون، وعقل، تستغله لهنائك وسعادتك، وهذا شرطه -عز وجل- وهو أن تحافظ وتحتفظ بالخير لنفسك، وتثبت أنك جدير به، وأهل له، تماما كالوارث العقل الذي يحفظ الثراء الموروث، ويصونه عن التلف والضياع ليتمتع به وبمنافعه.
قال الإمام علي بن الحسين (ع): (الحمد لله الذي ركب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتعنا بأرواح الحياة، واثبت فينا جوارح الأعمال، وغذانا بطيبات الرزق، وأغنانا بفضله وأقانا بمنه).
وليس من شك أن من يخالف أوامر الله، بعد هذه النعم، ولم يؤده على وجهه فإن فيه خللا وشذوذا، وليت شعري بأي شيء يتذرع من لم يسمع ويمتثل؟ هل يجحد الخالق من الأساس؟ إذن، فقد نصب نفسه قاضيا يحكم على الله والكون بغير علم ولا هدى، وهذا النقص والخلل،والله ولي التوفيق.