في زمن يعج بكثرة المشاكل والهواجس وتسابكها ،مما يخبئه المستقبل المجهول ، يواجه الإنسان عاملا قاتلا وساحقا لقواه ألا وهو القلق (المسمى بمرض العصر) ، والذي يسلبه صفاء الذهن والراحة النفسية والإحساس بالأوقات الجميلة ، كما أنه يؤثر سلبا على علاقاته بالآخرين حيث استفزاز مشاعره وشحنه نفسيا يمنع التواصل الإيجابي والأريحي ، والبحث عن ذلك الإكسير المعافي من التوتر يعد ضالة منشودة في كل زاوية ومكان ، ولن تجد علاجا مبلسما لتلك الآلام كالعلاقة بالله -سبحانه وتعالى- وما تهبه للإنسان من نفحات تهدئ نفسه وتبعد عنه شبح القلق ، فالدعاء والمناجاة سياحة فكرية مع تلك المعاني الجميلة والمضامين العالية، يتأمل المرء فيها ويتأمل ما ذكرته من صفات الجمال والخلال الحسنى؛ فتقوى عقيدته التوحيدية ، كما أنه عندما يقف بين يدي الله تعالى في الصلاة يستشعر العظمة الإلهية ومدى ضعفه وافتقاره للرحمة والمغفرة الإلهية ، والجلوس بين يدي مائدة القرآن الكريم يمنحه الدروس الفكرية والأخلاقية الصانعة لشخصيته القوية ، فما أحوجنا لقبس نور وهدى يبين لنا المسالك والسبل الخاطئة وأفكار الضلالة وينبهنا من حفر المكر الشيطاني ، وهكذا بالنسبة لبقية العبادات في مفاهيمها وعطائها تكسب الإنسان الفيوضات النورانية .
والإمام الكاظم (ع) له ملاصقة وملازمة لمحراب العبادة والطاعة حتى وصل إلى مبتغاه ومسألته من الله تعالى بالتفرغ للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى ، في أجواء روحية تختفي منها معالم حب الدنيا الزائلة والشغف بزينتها ، ويبقى منها ما له قيمة ومكانة، وهي تلك الأوقات التي يقضيها في محراب العبادة ، وكانت له من الألقاب ما يرتبط ببعض جوانب عبادته كالعبد الصالح وحليف السجدة الطويلة ، أما لقب العبد الصالح فهو يرتبط بنهجه وتعامله المذكر بسيرة الأنبياء والأولياء الصالحين ممن دأبهم طاعة الله تعالى وسيرهم التقرب منه ، وقد شهد بذلك كل من رأى الحياة العبادية للإمام (ع) فلم يكن مستوحشا من نورانية الصلاة والصوم وتلاوة القرآن الكريم بل كان بهم أنسه وطمأنينته ، وكانت له سجدة طويلة بعد صلاة الفجر وتعقيباتها حتى تشرق الشمس شكرا لله تعالى على عنايته وتدبيره الحكيم والعادل في كل شئونه وأحواله (ع) .
وقد اشتهر الإمام (ع) بلقب الكاظم أي الماسك لغضبه وانفعاله كردة فعل حسنة في مقابل ما يجابهه من إساءة وشماتة واستفزاز ، فضرب النموذج الأمثل في ضبط النفس وهدوئها أمام الصعاب والظروف القاهرة ، وما أحوجنا اليوم للتأسي به في كل صفاته وخصاله الحميدة وخاصة الحلم وكظم الغيظ ، إذ يواجه المرء الكثير من عوامل الإغاظة وتأجيج المشاعر بسبب الاحتكاكات اليومية والنقاشات التي تتطور في بعض الأحيان إلى انفعال ، والمنهج الأخلاقي.
ودروس الحياة التي يقدمها لنا الإمام (ع) هو تدريب النفس على التعامل الهادئ مهما كانت الظروف ، ومع تكرار هذا التصرف منا تعتاد النفس على التصرفات الحكيمة وتتجنب الخطوات الانفعالية المتهورة ، وصمام الأمان للعلاقات المستقرة والناجحة هو القدرة على امتلاك زمام أمور النفس فلا يصبح الإنسان أسير الاستفزازات ، فيتعامل معها لسانه بإطلاق الكلمات المتفلتة والمسيئة، فلا ينفع معها حينئذ الندم الشديد ، والأمر -مواجهة الاستفزاز والإساءة - لا تتعدد فيه الخيارات، فإما أن نطلق العنان لانفعالاتنا المكتومة فيصدر منها ما يؤثر على علاقاتنا ويلحق بنا الخسائر الفادحة ، وإما أن نقابل الإساءة بالتجاوز عنها طلبا للتصالح مع ذواتنا وتحقيقا للتعايش المستقر مع الآخرين مما يعزز علاقاتنا ومكانتنا الاجتماعية .
وكان الإمام (ع) الحصن الحصين والمرجعية للناس في الجانب الفقهي وتفسير كتاب الله تعالى وتقديم الكنوز الحكيمة من كلماته المتضمنة للمفاهيم والقيم الأخلاقية ، ولم يكن الإمام الكاظم (ع) بعيدا عن حاجات الناس المالية بل كان يبلسم فقرهم بما اشتهر بصرر نقود موسى (ع) ، حيث كان يضع في الصرة الواحدة ثلاثمائة وأربعمائة دينار ينفقها على الفقراء بما يساعدهم على توفير مستلزمات الحياة الكريمة .