وأي قلم يمكنه أن يسطر جوانب المعرفة والإحاطة بشخصية رفيعة الشأن في عالم الكمال والفضيلة وجمال الروح ونورانية الكلمة والفعل كالسيدة الزهراء (ع) ، فقد بلغت أعلى درجات الوعي و البصيرة وشعت منها أنوار الحكمة والرشد فيما ورد عنها من مأثورات وكنوز حكم ، تحتاج منا إلى تأملها واستيعاب ما حوته من مضامين عالية ومن ثم تحويلها إلى خطوات عملية ومفردات في منهجنا الأخلاقي على أرض الواقع ، كما أن روحها الطاهرة سمت في أفق المحبة واستشعار احتياجات الآخرين وتلمسها وبلسمتها ، وهذا ما ظهر جليا في جوابها لابنها الإمام المجتبى (ع) حينما سمعها تبدأ في دعائها بعد صلاة الليل بجيرانها وتطلب من الله تعالى اللطف والرحمة في تسيير أحوالهم وقضاء حوائجهم ، وما أحوجنا في تعاملنا مع الآخرين وعلاقاتنا بهم أن نكون كمولاتنا الزهراء (ع) والتي تتزين بالتسامح ومحبة الخير للآخرين وطلب الخير والصلاح والتوفيق لهم ، فتلك الكراهية والبغضاء تتلاشى ويضمحل أثرها إذا تجاوزنا إساءة أحدهم وتعالينا على الجراح ووأدنا التفكير الشيطاني برد الصاع بصاعين وتجنبنا مقابلة الإساءة بمثلها .
وكان عمرها الشريف قصيرا فقد رحلت عن دنيانا في ريعان الشباب ولكنها أعطتنا درسا مهما في قيمة الإنسان وكيفية استثمار العمر وساعاته مهما بلغت ، فقيمة الإنسان بهمته وإرادته الصانعة له مجدا وإنجازا يعبر عما يمتلكه من قدرات استطاع أن يطوعها ويستثمرها في طريق العمل المثابر وتوسيع أفق الفكر وتنمية المعارف ، فاغتنام الأوقات وتحويلها إلى مراحل في طريق خطط له جيدا وعمل بكل ما أوتي بقوة هو المعيار الحقيقي المعبر عن مكانته ووجوده ، وهكذا هم من تسنموا أعلى درجات التكامل الإنساني ومن ساروا على نهجها (ع) قد هذبوا أنفسهم وطهروها من شوائب الأهواء والشهوات ، فإن الشيطان الرجيم له خطواته ومساربه و دحفره ومن أهمها تغييب العقل الواعي عند الإنسان ، والذي يستطيع من خلاله أن ينتشل نفسه من وحل الخطايا والعكوف على الرذائل الأخلاقية ، فمن عرف حقيقة نفسه المكرمة التي هيأ له الباري -عز وجل- كل السبل لرفعة شأنها والتسامي والرقي بها ، لم يدع نفسه رهينة لتسويلات النفس الأمارة بالسوء ولا لحياة التكاسل والتعاجز وتضييع الأوقات في ما لا فائدة تجنى منه .
والسيدة الزهراء (ع) تمثل القدوة الحسنة للفتاة التي تتطلع إلى أعلى درجات إثبات الوجود ورفعة الشأن في الدارين ، فهي منبع المشاعر الإنسانية في الامتنان لخالقها فحالفت محراب الطاعة والقرب من الله تعالى ، وسكب الطمأنينة من خلال مناجاة الباري لترسم بذلك العالم الروحاني الذي يكتسب منه الفرد هدوء النفس في وسط لجج الحياة ومتاعبها ، وتهذب النفس وتخلصها من التعلق بالمظاهر الدنيوية الخداعة .
وتمد يد العون والعطاء بكل ما يقع تحت يدها للمحتاجين ولم تؤثر نفسها بشيء من متاع الدنيا ، كيف وهي من تغذت في أحضان العطاء والتضحية المتمثل بأمها السيدة خديجة (ع) ، وبين يدي الدوحة المحمدية فتحت عينيها على العمل التبليغي والرسالي في جهد كبير في سبيل هداية الناس وإرشادهم وانتشالهم من الرذائل الأخلاقية .
وشاطرت السيدة الزهراء (ع) أباها الرسول الأكرم (ص) في الدور التبليغي ، فتحملت مسئولية تعليم النساء وتوعيتهم بالأحكام الدينية وتوضيح المضامين العالية لآيات القرآن الكريم ؛ لتخلق بذلك واقعا جديدا ومكانة عالية للمرأة واحتراما لعقلها وقدراتها المساهمة في نمو وازدهار المجتمع .
وحياة البساطة والقناعة التي عاشتها الزهراء (ع) في بيتها الزوجي يعد معلما مهما في كيفية إدارة تلك العلاقة الشراكية بين الزوجين ، فقد عملت بكل همة ومثابرة لتوفير أجواء الطمأنينة والسعادة لزوجها أمير المؤمنين (ع) وأبنائها (ع) ، وفي المقابل كان أمير المؤمنين (ع) يقدر ذلك الدور الكبير بل ويشارك زوجته في أعباء المنزل كطحن الشعير والحنطة ، وإذا ما أردنا تحصيل السعادة الزوجية والاستقرار في علاقة الزوجين والبناء الأسري الرصين ، فلنحتذ بسيرة البيت النوراني للزهراء (ع) ونتخذها نبراسا ونستلهم منها القيم الأسرية .