ورد عن الإمام الصادق (ع): ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خراب لا يصلي فيه أهله، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه) (الكافي ج ٢ ص ٦١٣).
شكوى الخصوم يعد من أشد مشاهد العدالة الإلهية يوم القيامة إيلاما من الناحية النفسية على من اجتمعت عليه الخصوم طلبا للاقتصاص من تجاوزاته، وتطلب هذا الاقتصاص من الإنسان الظلوم الجهول عند رب العالمين في محكمة أعدت بدقة متناهية لا مجال فيها للمراوغة أو التبريرات الواهية أو الأكاذيب المزيفة، فلن يفلت من الإدانة وما يترتب عليها من مسئولية وعقوبة جراء أفعاله، كيف والشهود عليه متعددون وأهمهم جوارحه ينطقها الله عز وجل لتتحدث بما اقترفت من مخالفات وتقصيرات، وهذه المشهدية تدفعنا نحو التخلي عن الإهمال والعاجز وحياة الدعة والاقتصار على الانشغالات المادية، متناسين وغير آبهين بيوم عظيم تشيب فيه رؤوس الأطفال الرضع وتذهل النفوس من أهواله، فالإنسان الناجح هو الذي يعد العدة لكل أمر وواجب ملقى عليه في جانب دراسته بالمذاكرة الجادة أو على مستوى وظيفته وأداء المعاملات وغيرها، فكيف يكون استعدادنا لليوم الآخر الذي يواجه فيه الإنسان حسابا دقيقا بمستوى الذرة متناهية الصغر، فيحاسب على ما قدمت يداه بميزان العدالة فلا يظلم ولا يبخس من حقه شيء أبدا.
أول الخصوم المشتكين على الإنسان الظلوم الجهول هو بيت الله عز وجل (المسجد)، والذي عانى إهمال وغياب الرعاية والاهتمام به وتعاهده المؤدي إلى خرابه معنويا، فالمسجد في عطائه ودوره المحوري في حياة الإنسان لا يخفى لمن اطلع على سيرة النبي (ص)، حيث كان يجتمع المؤمنون من حوله ليتلقوا تعاليم الشرع الحنيف في مختلف الجوانب الفقهية والقرآنية والعقائدية، وتنتظم أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية من خلال تلك التوجيهات النبوية والتدخل العملي لحل المشكلات المصادفة لهم، ويعيش البعض غيبوبة فكرية وسلوكية من خلال ظلم نفسه بخلو ساحة المسجد من وجوده وتفاعله، فالإعمار الحقيقي هو الجانب المعنوي من خلال إقامة صلاة الجماعة وما يتبعها من دروس تربوية.
والمشتكي الثاني هو العالم الحامل للمعارف الحقة التي تنير العقول وتنمي المدارك وتورث الوعي وطريقة التفكير الصحيح، ويجسد في تصرفاته وسلوكياته الأخلاق الرفيعة مما يدفع الناس نحو الانجذاب إليه والاقتداء به، بما ينعكس إيجابا نحو تنشئة مجتمعية راقية وتستقر علاقات الناس المتصفة بالاحترام والتعاون والتكاتف، والمهم هو النظر في العوامل المؤدية إلى التخلي عن التحلق حول العلماء الثقات وتهميشهم، الجهل والإهمال هما الدافع الأكبر الداعي إلى تجاهل دور العلماء والانتفاع من علومهم ووجهات نظرهم وتصوراتهم في معالجة المشاكل السلوكية والاجتماعية، كما أن البعض بعيدون عن الموضوعية والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، ويطبق هذا المبدأ الذي يسير عليه مع العلماء الثقات، فلا يقيم لجهودهم وعطائهم وزنا ولا قيمة، ولكن هذا التجاهل لا يحقق غرضه مع العالم العامل بل يزيده قوة ويقينا في ميدان العمل المثابر، وخصوصا أننا اليوم أمام منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي يمكن من خلالها بث ما يريده من نشر التوجيهات التربوية والأخلاقية والاجتماعية.
والمشتكي الأخير هو كتاب الله تعالى، والذي يعد دستور المسلمين وفيه رسمت معالم شخصياتهم وآفاقها وأبعادها، فهذه التعاليم الأخلاقية تزخر بها الآيات القرآنية وتحتاج إلى آذان واعية تسترشد بها في ميادين الحياة، ويا للأسف مما وصل إليه حال البعض من هجران لكتاب الله تعالى وانقطاع حبل المودة معه، حتى وصل الأمر إلى تجمع الغبار عليه في دلالة على الابتعاد عن تلاوته والتدبر في آياته، وقد تكون علاقة البعض بكتاب الله تعالى في المناسبات كشهر رمضان وغيره وأما بقية السنة فقد ركن كتاب الله على الرف واندفع إلى مشاغله الدنيوية، أفلا ينظرون إلى قصص الأمم السابقة وكيف اتجهوا نحو الانحراف العقائدي والسلوكي مع تعدد اتجاهاته؛ ليتخذ من خلال فهم مقاصدها عبرة تنير دربه وتجنبه المنزلقات الأخلاقية، فالعاقل البصير لا يمكنه الابتعاد عن قبس الهدي القرآني الذي يكسبه ألق في جميع جوانب شخصيته ويسير به خطوات في طريق التكامل الإنساني.