بينما كنت أخط الخطى بالقرب من مرقدي الإمامين العسكريين عليهما السلام استوقفتني عبارتان مكتوبتان على جدار أحد المضائف منسوبتين إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، يقول في الأولى : من الفوارق التي تقصم الظهر جار إن رأى حسنة أطفئها ، وإن رأى سيئة أفشاها ، ويقول في الثانية : من رضي بدون الشرف من المجالس لم يزل الله وملائكته يصلون عليه حتى يقوم.
عبارتان فيهما من العبر التي لا تحصى ، فالأولى : تبين فظاعة الأنفس المريضة التي يحملها بعض البشر بحيث يصبح الجار وبالاً على جيرانه حينما يتعمد إخفاء محاسنهم ، ويفشي سيئاتهم!! .
ولعل شمول مفهوم الجار أعم في أن يحصر في جار الدار ، فالجار هنا يشمل المتصل جار الخلق والإسلام والولاية والرحم والطريق والعمل وما إلى ذلك ، لذلك يصبح فعل الجار المشين الذي يفترض أن يفشي حسنات جيرانه ، ويخفي سيئاتهم من الفوارق التي تقصم ظهر من أبتلي بجيران سوء !! .
أما الرواية الثانية : فهي مدرسة بحد ذاتها في تهذيب الذات ، وترسيخ ملكة التواضع في النفس خصوصاً لمن يعشق السير في مضمار مرضاة الله عز وجل .
لذلك تجد معظم الناس خصوصاً ممن لهم وجاهة دينية أو مكانة اجتماعية يحرصون و لا يقبل لهم إلا الجلوس في صدارة المجالس ، ولعلنا نشير إلى أن من سيرة أخلاق النبي صلى الله عليه وآله أنه إذا دخل مجلساً جلس في أدنى المجلس !! ، فبهذا السلوك الفريد أوصل رسالة لكل البشر : أن الإنسان مهما علا قدره فمرده إلى التراب .
فالإنسان الرفيع يظل كبيراً سواء جلس في أدنى المجلس أو آخره ، بينما الدنيء يظل وضيعاً سواء جلس في صدارة المجلس أو عليته ، لذا تجد المريض ، ومن يشعر بنقص داخله يحرص دائماً على الجلوس في صدارة المجلس باعتقاده أن المكان هو الذي يرفعه ، ويبين قدره بين الناس ، وهو الوهم بعينه .
فالمؤمن الوعي دائماً يبحث عن المصداقية في سلوكه مع نفسه و تعامله مع الناس حتى في اختيار مكان جلوسه ، ويثق أن المكان بالمكين ، وليس المكين بالمكان ، وشخصيته بذاته وليس بمكان جلوسه !! .
فما الضير أن يعشق أحدنا كلام إمامه العسكري عليه السلام ، ويجرب خوض مضمار المغامرة التي صاغها بكلماته النورانية حينما يدخل مجلساً ، ويبحث عن مكان يجلس فيه بين عامة الناس ، متجرداً من كل الألقاب ، ومرجحاً كفة رضا الله على نظرة الناس ؟!! .
فبربك : أيهما يرجح الإنسان مكاناً يجلس فيه يشبع الأنا في نفسه ، ويلفت الناس إليه ، أم يرجح مكاناً يحظى فيه بصلوات الله جل شأنه ، وملائكته في سماواته الذين يستغفرون له حتى يقوم من مكانه ؟ !!.
حينها سيدرك السالك لهذا السلوك عظمة طريق الحق ، ولذة الماء الزلال الذي استطعمه من فيض أئمة الهدى صلوات الله عليهم ، وحظي بتربية ذاته ، ورسخ ملكة تواضع في نفسه ، وزاد من رفعته في أعين غيره ، وحظي باستغفار الخالق له .
أعظم الله أجوركم بمصاب الإمام العسكري عليه السلام زرقنا زيارة قبره الشريف وفي الآخرة شفاعته بفضل الصلاة على محمد وآل محمد.