رسالة من الحسين بن علي إلى الرجل الفقيه: (حبيب بن مظاهر) أما بعد،
"يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنت أعرف بنا من غيرك وأنت ذو شيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك، يجازيك جدي رسول الله يوم القيامة".
كم شخص تمنى أن تصله مثل هذه الرسالة؟ ربما الكثير، بينما هي وصلت إلى شخص يدعى حبيب بن مظاهر الأسدي، في ظروف استثنائية، ووقت مختلف، ولحدث غير مجرى التاريخ، منذ لحظة حدوثه إلى يومنا الحالي الذي نعيشه الآن.
كان جالسا مع زوجته وبين أيديهما طعام يأكلان إذ غصت زوجته في الطعام فقالت: الله أكبر يا حبيب الساعة يرد كتاب كريم من رجل كريم، فبينما هي في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب فخرج إليه حبيب وقال: من الطارق؟ قال: أنا رسول وقاصد الحسين عليه السلام إليك، فقال حبيب: الله أكبر صدقت الحرة بما قالت ثم ناوله الكتاب ففضه وقرأه فسألته زوجته عن الخبر ؟فأخبرها فبكت وقالت: بالله عليك يا حبيب لا تقصر عن نصرة ابن بنت رسول الله فقال: أجل حتى أقتل بين يديه فتصبغ شيبتي من دم نحري.
وبالفعل قد اصطبغت لحيته بدم نحره في كربلاء، في اليوم العاشر من محرم سنة 61 هـ وكان له من العمر 75 سنة، بعد أن قاتل قتال الأبطال دفاعا عن الحق، ودفاعا عن الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
في كل سنة تأتي سيرة حبيب ضمن السير المنصوص عليها أن تذكر في العشرة الأوائل من محرم، تعتلي المنابر أصوات شجية تمدح هذا الشيخ الكبير الذي أكرمه الله تعالى بهذا التكليف، وأعطاه هبة لا يحظى بها إلا من قد خص بنعيم أزلي في الدنيا والآخرة، سيرة عبقة وشرف عظيم امتد إلى يومنا الحالي وما زال يمتد بين الأجيال تتعاقبه السنون.
هو حبيب بن مظاهر أو مظهر بن رئاب بن الأشتر بن ججوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن داوُد بن أسد يكنى أبا القاسم الأسدي الفقعسي، صحابي مشهور وفقيه معروف تشرف بخدمة الرسول صلى الله عليه وآله وسمع منه أحاديث، ذكره ابن حجر في الإصابة قائلاً: له إدراك، وعمّر، حتى قتل مع الحسين بن علي، لازم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو من أكابر التابعين له سلام الله عليه.
قال أهل السير: إن حبيباً رضي الله عنه نزل الكوفة وصحب علياً في جميع حروبه وكان من خاصته ومن أصفياء أصحابه وحملة علومه، ومن شرطة الخميس نال تكريم الرسول الأمين صلى الله عليه وآله حين قبّله بين عينيه وهو صغير.
لم يدافع عن شخص الحسين عليه السلام فحسب، بل دافع عن المبدأ الذي خرج إلى طلبه الحسين، دافع عن العقيدة والرأي والحقيقة، دافع عن الصلاة فقد ذكر الطبري: "قالوا عندما طلب الإمام الحسين عليه السلام من أصحابه أن يسألوا جيش الحزب الأموي يكفوا عنهم لأداء الصلاة فقال الحصين بن تميم: إنها لا تقبل فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله لا تقبل وتقبل منك يا حمار؟! قال: فحمل عليهم حصين بن تميم وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه وأخذ حبيب يقول:
"أقسم لو كنا لكم إعدادا أو شطركم وليتم أكتادا يا شر قوم حسبا وآدا" وقال:
أنا حبيب وأبي مظاهر - فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتم أعد عدة وأكثر - ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر - حقا وأتقى منكم وأعذر
ما بين سندان الحرب وحرارة شمس ظهيرة يوم العاشر من محرم سنة 61، ورحى الحرب الضروس تدور، علق رأس حبيب على رمح طويل، بعد أن تعددت أسماء المشتركين في قتله والإجهاز عليه، فقد حمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه، وضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، ونزل إليه التميمي بعد أن وقع من على فرسه، فاحتز رأسه وعلقه على رمح ودفع به مع بقية الرؤوس المقطوعة في تلك الحرب، إلى عبيد الله بن زياد.
وأما عن قبره فله مزار خاص يختلف عن مزار الأنصار وبقية الشهداء الذين قتلوا دون الحسين عليه السلام، ورسالته المعطاء، فقد ذكر أن الإمام زين العابدين لما انتهى من مواراة الجسد الطاهر للإمام الحسين، عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها، إلا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمه ذلك ودفن في ناحية عن الشهداء.
حبيب وهو حبيب لله ولرسوله ولأهل بيته عليهم السلام، منارة علم ترفرف، لم تخب أبدا، تظهر الشجاعة حتى في كبر السن، ورجاحة العقل، حتى مع مشيب الرأس، وقوة في الإيمان والمعتقد، حتى مع زينة العصر.