”جِيبْ لِعْمَامَةْ يَبِنْ عَمِّي وخِذْ هالمَقْنَعَةْ“، هذا الشطر من البيت الشعري المُنبعث من وسط نصّ شعبيّ خالد للمرحوم الكبير المُلا عطية الجمريّ، صاحب الجمرات الودية في المودة الجمرية؛ حيث كُتب باللسان البحرانيّ ( نسبةً للبحرين) الدّارج، يشكّل مدخلاً رحبًا إلى مقام العنوان الذي يحاول سبر بعض قيم الصحبة أو النُّصْرة الكربلائية، وتحديداً في صِلاتها الحسينية وأبعادها العاشورائية.
وبالرغم من أنّ ما يمكن أن يراه الكثيرون في هذا الشطر الشعريّ من معاني مباشرة لا تتجاوز الخطاب الحواري البسيط، إلاّ أنَ (المتأمّل) خلال مجموع فقرات النص، يجد أنّ هذا الشطر هو في دلالاته يمثّل ليس بيتاً شعرياً واحداً فحسب، وإنّما هو «بيت القصيد».
وبقراءة لسانية، يتجلى مفهوم الحِجَاج واضحاً عبر هذا النصّ الشعري الحواريّ، فيبلغ ذروته في نبضات كلمات هذا الشطر المشحون بالعاطفة الصادقة والمسكون بقلق اللحظات الصعبة، المتوجس من انهيار قيم الصحبة والنصرة، بالتحول والنكوص، في خُطىً ارتدادية باتجاه يسلك فيه الفعل مساراً معاكساً تماماً لذلك المرفوع على لوحة القول.
إنّ التكامل الصادق في نصرة الإمام الحسين عليه السلام داخل أسرة شيخ الأنصار الفقيه حبيب بن مظاهر الأسدي رضوان الله تعالى عليه وزوجته الأسدية جزاها الله خيراً، يعكس الصورة الإيجابية لدى هذا النموذج التضحوي الماثل أمام حركة التاريخ، كرائعة لا نهائية في مضمار السبق بالفداء والنصرة وبين حنايا الوعي الأصيل بالوصول إلى أسمى درجات العطاء الظّافر.
ومن نماذج الأنصار المخلصين يأتي الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي الأسدي الوارد اسمه في زيارة الناحية المقدسة والتي تشكل قيمة عالية لدى الحالة العلمائية الدينية.
هذا الصحابي كان شيخاً، ولأنه كان ممن روى حديث النبي صلى الله عليه وآله، حين قال في حديث مضمونه: أن الإمام الحسين عليه سوف يقتل في كربلاء ومن شهده فلينصره، فبقي هذا الصحابي ينتظر هذه النصرة سنين وسنين وما بدّل تبديلاً إلى أن قاتل وهو شيخ كبير، إلى درجة استعان فيها بعصابة، ليشد بها حواجبه المرتخية لكبر سنّه؛ فنال الحسنيين الانتظار والشهادة رضوان الله تعالى عليه.
أمّا الحرّ بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه، هذا القائد العسكري العملاق، صاحب الوجاهة في بعدها العشائري، وذو الموقع الاجتماعي الشامخ، راح يقلب معادلات الخسارة أو قل الربح الشكلي والمؤقت في حياته إلى صفقة ربح مطلق في تجارة مع الله سبحانه وتعالى، ناجياً ببركات سفينة النجاة الحسين عليه السلام.
ولسرعة سلسلة الأحداث المتوالية في شخصية الحرّ الرياحي رضوان الله عليه، التي بدأت باعتراض طريق الركب الحسيني، وانتهت بالتوبة الناصحة والناصعة، راح تراب كربلاء ينحني ويترنم لتوبته عند قدمي المولى أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين، ولعل الأحداث الدرامية التي نقلت مشاهد التحولات الدراماتيكية في الساعات الأخيرة للحرّ الرياحي رضوان الله عليه، أتاحت هذا الظهور الفاتح في حياته وأسبغت على سيرته قيم كربلاء الشهادة التي حتما أصابته نفحاتها منذ أصرّ على أن يصلّي بصلاة الحسين عليه السلام في أولّ لقاء، رغم مخاض المواجهة الأولى، وهنا تتجلى بدايات السعادة في مسيرة هذا الناصر الصاحب وبطل الذات وعملاق القرار الأخير في درب الوصول إلى الضياء الحسيني وأشعة مصابيح الهدى وأنوار الدجى وسفينة النجاة.
في عاشوراء، يقف العالَم إجلالاً لشخصية الفرادة القيمية، وتنصت مجرّات الكون، حينما يرتفع اسم الحسين، وخلال ساعات عاشوراء، تترقّى الفرص بين يدي المسيرة الحسينية الخالدة التي تحفظها الكرامات المهدوية، وتنتقل إلى أجيال الأمّة عبر تضحيات الأجداد وبراعة الآباء، ورسوخ اليقين الحسيني بين جنبات القلوب، في حركة تركيز جامع بين الفكر الحسيني المتدفق وانسكابات الشجن العاطفي في مدمع الهوى الحسيني وعلى خدود الرؤى السماوية وفوق أرض الإباء الحسيني ونماء الشموخ الزينبيّ.
ختم الإمام الحسين عليه السلام: ”أمّا بعد، فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي.“