الطباخ لايطبخ لنفْسِه فقط بل للآخرين، وكذلك الكاتب لا يكتب لنفسه بل للآخر أيضًا ، وفي تواصلهُ مع هذا الآخر تنشأ علاقة جدليّة .
هذه العبارة مجرد رأي ، ولآخر رأي قد يتفق وقد يعارض ،وهكذا تتباين الآراء ويختلف اتجاه الأقلام تبعًا لذلك ،وكلّ قلم يُدلِي بحبره.
(اتفقنا في المطلب واختلفنا في المسلك).
إنّ المسار الكِتَابيّ لكل كاتب هو الذي يضعه على الطريق الأمثل لاحترافيّة الكتابة وهو الطريق الذي يشقّه للوصول إلى منصّات التواصل الاجتماعي ؛ فالمعاني ملقاة في الطرقات الأدبية والكاتب هو من يلتقطها ويُشذّبها ويضعها في سياقها المناسب .
ولن يتسنى له ذلك إلا بخطوة تبدأ من أعمق نقطة في الشارع الإنساني، وهذا ما أشار إليه الكاتب "دانييل فيدارت" فيقول:(بالرغم من أنني عشتُ محاطًا بالكتب وألّفتُ ما يقارب أربعين كتابًا إلا أنّ أفضل مُعلّم هو الشارع ، لقد تعلمتُ على طول الشارع وأوصي الجميع أن يستمروا بالمشي).
ثمّة إشارات واضحة في دروب الكتابة تدل على نجاح من يطوون عالم الإنسان ذهابًا وإيابًا،ويذوقون مرارة الألم في كتاباتهم ، فينسجون تُحفا قيّمة تترك أثرًا بالغًا في متاحف القلوب وهذا ما لمسته في عالم "نجيب محفوظ" فقد غرق في سماع محاورات الناس في الشارع المصري ولاحظ كيف يعيشون وكيف يفكرون فخرج بأجمل روائعه (بين القصرين) و(السّكريّة) و (أولاد حارتنا) .
ولأن اصطياد لغات الناس المختلفة يحتاج منه إلى البحث الدقيق والإخراج المبهر للناس فقد نجح في نقل كل ما شاهد عن طريق القراءة البصرية والعرض السينمائي.
ينتظر الناس الصباح ليأخذوا لهم مكانا بين أروقة القهوة ويعانقون مكاتبهم في دوائر عملهم ، وينتظر الكاتب قدوم الصباح حتى ينظم أجمل بحوره الشعرية.
أيّ ملهم يرى الشمس تضرب قمم الجبال وتحتضن السحاب لابد أن يمتلئ جوفه بالكثير من الكلمات التي تتسابق للخروج من بين يديه لذلك هو بحاجة ماسة للكتابة اليومية وهي الهدف الذي ستصل به لامتهان الكتابة واحترافيتها ، أضف إلى ذلك إنّ ابتعادك عمّا يُسمى بقفلات الكاتب وعجزه العقلي عن استرداد حريّة قلمه المقيدة أمرٌ له بالغ الأثر في برمجة العقل الباطن ، أنت هنا وتستطيع الكتابة بشتّى أنواعها مادمت تملك مِداد القوة وزاد الموهبة ،فوجودك مع الناس على شاطئ البحر ، أو في مقهى أدبي محفّز قوي لإظهار ملكتك الأدبية وموهبتك الفذة ، وجلوسك بين أحضان الطبيعة له أبعد الأثر في استحضار القاموس المحيط بأكمله.
إن عقل الكاتب هو الذي يسدده نحو الرميّة الصحيحة فهو يُثرثر بجمال ورشاقة ويلتزم الصمت بحكمة ، أنت تصمت أحيانًا لأنّك
تعلم بأنّ لغتك غير مفهومة ، تختلف عن لغتهم أحاديثك مثل الجواهر والأحجار الكريمة تفقد بريقها إذا خرجت لمن لا يُجيد القراءة المُثلى ،وقد تُجيد الحديث والكتابة لعالَم من أجمل صفاته الإنصات السمعي والإنصات التأمليّ.
ومن المسلّمات لديّ أنّ الكتابة عالم آخر يرحل فيه الكاتب إلى كهوف مظلمة يُشعلها بالنّور ثم يُحلّق مع طيور السماء في رحلة أشبه بالخيال وقد حافظ على تنوّع أدواته الكتابيّة .فهي السيف الذي يتقلده ويبارز به في السّاحة الأدبية.
تاريخ نشر المقال: 14-12-2022