كم سمعنا بقصص العاشقين ، وتردد على ألسنتهم الترادف الجميل بمفردات الحب إذ نالت اللغة العربية قصب السبق بين اللغات في وضع مسميات عديدة لهذه المشاعر السامية، حتى جهل بعض أبنائها معرفتها.
إنّ للحب درجات تُفسّر بمدلولات مختلفة نذكر منها :لواعج ، لَوْعَة , مَحَبَّة , مَوَدَّة , هَوى , هُيَام ,وَجْد , وَلَع , وَلَه , وُدّ ،وأعلاها رتبة الهُيام ، والحبّ شعور لا يكتفي حامله بإخفائه بين جنبات قلبه، بل تُذاع أسراره من حيث لا يقصد صاحبه.
الحبّ هو الشعور الفاضح الذي يظهر مثل شذا الأزهار في أجواء أهله فينتشر أريجه هنا وهناك، وتشرق الدنيا سرمدا بالإحساس
به ، كان ذلك حبّ الرسول صلى الله عليه وآله لسيدي شباب الجنة الحسن والحسين ووصفهما بأنهما قطعة من قلبه .
أخرج الترمذي في سننه ،(باب مناقب الحسن والحسين) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة ،فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو، فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا حسن وحسين على وَرِكَيه.
ثم قال:(هَذَانِ ابْنَايَ وَابْنَا ابْنَتِيَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا).
هكذا شاع حبّ سبطي رسول الله بين صحابته وأهله ، ولقد أراد النبي الكريم لأمته أن ترث حب أهل بيته منه وأن يسير حبّ الحسين عليه السلام بين القوافل الزمنية ويعلو صداه بين القرون ولم يخبُ ضوء الحسين وظلّ نبراسًا يُضيء زمنا تلو آخر .
كان إرثا صادقا ولم يكن من ضمن العادات والتقاليد المُدرجة في مجتمعاتنا ؛ لأن هناك من يرعاه ويحافظ عليه ، ولأنه بُني على أسس قويّة يصعب هدمها ولن تتلاشى على مر العصور.
فكيف لا يكون حبّ الحسين حبّا حقيقيا وقد كان رسول الله (وما ينطق عن الهوى) هو من زرعه في القلوب ؟وظلّ مثمرا يتجدد ببركة ذلك الغارس عندما كانت التربة خصبة والهواء عليلًا والنّفسُ في حب أبي عبدالله يُردد: صلت عليه الملائكة وصلت سيوفهم فأحجموا عن قوله صلى الله عليه وآله :(حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحبّ حسينا، حسين سبط من الأسباط).
إنّ حبّ الحسين قد جعل أصحابه يكتوون بنار فراقه؛ إذ كان الحسين الممثل الأعلى للإسلام وينابيعه المستقاة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك، وكان يمثل الطريق الموازي الذي لا يلتقي مطلقا مع طريق بني أمية واستهتارهم بالقيم الإسلامية.
وقد حفظ التاريخ قول يزيد بن معاوية عندما كان يضرب ثنايا الحسين بمخصرة كانت في يده، وهو يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
أما بالنسبة للحسين عليه السلام فالجميع كان خائفا عليه وقد نبع ذلك الخوف من الحب الحقيقي لرجل محنك شارك والده معالجة الأمة بجروحها ومخازيها وشهد مع أخيه الحسن عليهما السلام كيف تحول الناس إلى ركام من أجل المصالح الشخصية.
لذلك نشطت محاولات كثيرة وقفت في وجه الحسين حتى لا يخوض غمار كربلاء ،حبا لشخصه وكرامة لجده، فهو النور الذي ظلّ من أهل الكساء ، فهذا أخوه محمد بن علي يقول له عاشقا محبّا :(يا أخي أنت أحبّ الناس إليّ وأعزهم عليّ ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق إلا إليك ، تنحَّ ببيعتك عن يزيد).
ومن أجمل الرسائل التي وصلت للحسين عليه السلام رسالة عبدالله بن جعفر الطيار كتب فيها :
(بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد, فإنّي أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا, فإنّي مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك, إن هلكت اليوم طُفئ نور الأرض فإنّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين, فلا تعجل بالسير فإنّي في أثر كتابي, والسلام ) فكان جوابه عليه السلام : (أمّا بعد! فإن ّكتابك ورد عليّ فقرأته وفهمت ما ذكرت، والله يا بن عمّي لو كنت في جحر هامة من هوامِّ الأرض لاستخرجوني يقتلوني, والله يا بن عمّي ليعدين عليّ كما عدت اليهود على السبت, والسلام) وهكذا سطر الحسين عليه السلام مقولته الخالدة :
(رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين).