تربت في هذه البلاد ودرجت على أرضها منذ ما يقارب 75 سنة، عاشت فترات تغير وتطور في المجتمع من البساطة وحتى الترف في أوجه كثيرة، في شكل المنازل وألوانها، وفي الطرقات وأعدادها، وفي البيوت وتحولاتها، وغيرها من الأمور المجتمعية الكثيرة .
تقول أم خليل تربيت في أسرة محافظة، لا نخرج إلا وعلينا عباءة تستر كل شيء فينا، حتى ألوان البيوت، كنت أحسبها رمادية كلها، إلى أن رفعت في يوم من الأيام غطاء رأسي لأجلب سواري الذي وقع على الأرض مني، وما إن رفعت رأسي حتى رأيتها بيضاء وصفراء تسر الناظرين.
تقول: لم نكن نتذمر من ذلك، فلقد اعتبرنا هذا الأمر شيئاً من حياتنا وعاداتنا، وتقاليد شرعنا، وكنا في وقتها صغارا على فهم حدود الحلال من الحرام، أما اليوم فقد فهمنا ذلك وعدلنا الكثير مما كنا عليه سابقا، وفق الشريعة ولم نحيد عن العادات والتقاليد فأمسكنا العصا من منتصفها ولم نفرط فيها كما يحدث اليوم.
ومن موضوع إلى آخر وصل بنا الحديث عن سفرة شهر رمضان المبارك، وعن الأصناف التي يقدمونها على هذه السفرة وهل هي أيضا تغيرت أم ما زالت تحتفظ بشيء من عبق الماضي؟
تنهدت أم خليل وقالت: سفرتنا غير! كانت من خوص النخيل دائرية ملونة بألوان الأحمر والأصفر والأزرق، كان البيت كله يتحلق حولها، الأب والأم والأبناء وحتى حريم الأبناء عندما كبروا وتزوجوا وكذلك كان هناك مكان لأطفالهم معنا، كنا نبدأ السفرة بوضع طبق الهريس، وكان طبقا واحدا كبيرا يتوسطها ومن ثم أطباق الساقو، والشوربة التي كنا نعملها من بقايا الهريس، ولا تخلو سفرتنا من التمر، فقد كنا نبدأ إفطارنا عليه مع قليل من الماء، هذا الفيمتو الذي تشربونه اليوم لم نكن نشربه، وكان اللبن يحل محله، كنا نجلبه طازجا من البقرة التي نحلبها من الصباح أو العصر، وكانت السفرة لا تخلو من الثريد؛ لأننا لا نعمله في كل يوم، بينما طبق الثريد كان هو الطبق الرئيسي اليومي، وهو عبارة عن مرق مع خضار ولحم، أما الهريس فله قصة وذكريات لا تنسى!
ولو تسألوني عنها سأحكيها لكم، ثم حكت أم خليل قصة الهريس تقول: كانت والدتنا ونحن صغار وأظن جداتنا كانت تقوم بنفس الطريقة وكانت أمهاتنا وآباؤنا يفعلون ما نفعل نحن أيضا، إذ كانت والدتي تقوم قبل آذان المغرب بضرب الهريسة بملعقة خشب كبيرة نسميها "المضرابة" وتخلط حبوب الهريس مع اللحم لتجعلها ملساء، ثم وقبل أن تضعها في الصحن المخصص لها وترش عليها السمن، كنا ننظر إلى "المضرابة" بعين واحدة أنا وإخوتي، وهكذا كانوا أبنائي أيضا، وكان الأقوى فينا سيطرة هو من يسبق لأخذها من يد والدتي ليفوز بلعق ما عليها من بقايا هريس، أتذكر كنت تركض وراء من يأخذها أولا ويتعالى صراخنا حوله، كانت أيام جميلة ولها ذكريات لا تنسى، أما اليوم يضعون الهريسة في جدر الضغط، الذي يقوم بكل شيء يهرسها ويمرسها، فقط عليهم أن يسكبوها في صحون، دون فعاليات المطاردة أو اللعق الذي تعودنا عليه.
سفرتنا كانت لا تخلو من "الفجل" وهو مرافق للمرق دائما وبعض من السمك المجفف لكي نعمل منه "ودمة" وهي طبخة معروفة والكل كان يحبها، أما اليوم فقد اختفت تماما ومن يقوم بعملها يجد صراعا عليها برفضها لأن فيها رائحة السمك، وعند السحور كنا نختم يومنا "بالرز الحساوي" الذي يشعرنا بالشبع وعدم الجوع إلى موعد الإفطار في اليوم الثاني، وكان له طعم مختلف؛ لأنه كانت تمتزج لقمياته مع صوت "المسحر" الذي كان يجوب الشوارع وهو يقول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وكان بأهازيجه يخبرنا بموعد السحور وقرب موعد الإمساك، فكنا نسرع في وضع السفرة من جديد، وتناول السحور" لنقوم بعدها بقراءة القرآن حتى نسمع صوت الآذان فنصلي وننام.
سفرتنا غير ولمتنا غير ورمضان كان عندنا غير.
ملاحظة: قد تكون أم خليل شخصية حقيقية، وقد تكون من تأليف الكاتب، إلا أن المعلومات التي بداخل هذا للقاء واقعية وكان الناس في الزمن القديم يعمل بها.