لقاء تربوي اجتماعي: مع الأستاذ أمير الصالح
في وقفة تربوية لسد هذه الفجوة وردمها بين الأجيال بهذه المقدمة افتتحت الأستاذة منال الخليفة (معلمة ومربية أجيال ومديرة مدرسة وإدارية) في قروب "آراء وأصداء" على وسيلة التواصل الاجتماعية الأشهر "الواتساب" وكانت قد نسقت بمعية قائد المجموعة الأستاذ الكاتب والإعلامي: زكريا العباد وطاقم الإدارة في المجموعة، لقاء مسائي دافئ يوم الأربعاء ليلة الخميس، مع الأستاذ المهندس: أمير الصالح الذي تنقل ثلاثين عاماً بين عوالم الاقتصاد والهندسة وإدارة الأعمال، وبين سطور ٧٠٠ مقال عالج فيها قضايا اجتماعية وسلوكية كثيرة.
ثم أدرتُ معه دفة الحوار ووقفتُ معه على أبرز القضايا الاجتماعية التي تهتم بتربية الأبناء، وتسد الفجوة الحاصلة بينهم وبين جيل الآباء، الناتجة عن تبعات السوشيال ميديا وتأثيراتها السلبية والإيجابية على حد سواء، حيث جاء الحوار كالتالي:
*الحالمون، والكادحون*
* ما طبيعة الحوار بين جيلي الآباء والأبناء (الكادحين والحالمين) كما أطلقت عليهم في إحدى مقالاتك في ظل الانفتاح والعولمة وتخطي حدود بعض العادات السابقة التي كان يمارسها الآباء؟وما ردود أفعال الأبناء حالياً تجاهها؟
- مع عالم الانفتاح وتسارع الطفرات ومعرفة الشباب لأيديولوجيات جديدة ووسائل التواصل الحديثة تولدت لديهم مفاهيم جديدة داخل المجتمع الواحد،وكلها تصب في كيفية اكتساب حقوقهم، وللأسف لم تركز على واجباتهم ومسؤولياتهم، وهذا ما جعل عدداً كبيراً يعيش حالة انفصال عن الواقع، وانغماسهم في عالم الأحلام كعالم هوليوود أو بوليوود وعالم الإنيميشن، مما أوجد صدمة حضارية جعلت من وسائل التواصل مثل التيك توك والسناب شات وغيرها تتحكم في الأبناء والآباء.
أمام هذه الصدمة الحضارية هناك خمس خيارات أمام الأسر، تسلك أيها ترتضيه.
الخيار الأول:
الاستغراق الطويل لاستيعاب الصدمة الحضارية.
الخيار الثاني:
الانعزال والانهزام عن مسرح الحياة.
الخيار الثالث:
التصادم مع أبناء الجيل الجديد ووصم كل التقنيات الحديثة بالفتنة.
الخيار الرابع:
الانقلاب والانخراط بشكل مفرط في العوالم الجديدة بغثها وسمينها.
الخيار الخامس:
الاستيعاب للواقع وهضمه بعقلائية، والتفاعل معه بالتأثير فيه والتأثر به بناء على الاختيارات النافعة.
* هل تعتقد بأن الخيار الخامس موجود فعلاً الآن؟
وكم نسبة وجوده بين المجتمعات؟
- هو موجود ونسمع عن قصص ناجحة لأسر كثيرة وليس لدينا إحصاءات دقيقة لها، ولكن الأغلبية في معظم الدول لديهم عناصر النجاح ويغرسونها في أبنائهم للوصول إلى النجاح، وهذا وجدناه في المجتمعات التي تغربت عن بلدانها كالجاليات الهندية أو المصرية لديها نسب نجاح أكثر مما لو كانت في بلدانها الأصلية، ومن هنا يجب التركيز على هذا الجانب لمعرفة مميزاته الكثيرة.
*السوشيال ميديا وجيل الأبناء*
* ينغمس الأبناء في وسائل التواصل الاجتماعية المتعددة، ويتنقلون بينها،فهل خلقت جيلاً غامضاً في تصرفاته وردود أفعاله حول ما يدور في مجتمعاته؟ وهل أثر مشاهير السوشيال ميديا على طريقة تفكير النشء ومدى تقبله لقيم المجتمع ونبذها بزعم الحرية؟
- حتما خلقت جيلاً منفصلاً عن الواقع، بل ووصل بعضها إلى أن يكون جيلاً غبياً كبعض الذين يطلون علينا في برنامج "التيك توك" بحركاتهم ومقاطعهم الساذجة، وهناك لقاءات صحافية لكثير من علماء النفس تحدثت عن هذا الموضوع.
فالواعون من الآباء هم الذين يستغلون مثل هذه البرامج أو التطبيقات بذكاء في توجيه الأبناء نحو الإيجابيات وليس السلبيات،وأنصحكم برؤية فيلم وثائقي بعنوان: The Social Dilemma
*انفلات الشباب إلى الخارج*
*ماذا عن انفلات الشباب ولجوئهم للخارج هرباً من المجتمع والأسرة العربية نحو الحرية؟
-هذا محور كبير وله الكثير من الحكايات والقصص، قد يكون من بينها الاضطهاد الاجتماعي الذي يقلص الفرص في احتضان الابن من قبل ذويه، وقد يكون فعلياً ليس بمضطهد بالرغم من وجود ذلك في مجتمعات أخرى، ولكن في مجتمعاتنا ربما يتذرع الشباب بهذه الذريعة للخروج فقط إلى الخارج، والهروب من المجتمعات ربما رغبة فقط للخروج إليها، والحديث في هذا الأمر شائك له مختصوه الذين لهم مؤلفات كثيرة حوله.
* في بيوتنا الآباء مشغولون بالعمل، وربما الأم مشغولة بحياة اجتماعية "عملية" أو "نسوية"، فيقصرون تجاه الآبناء، وربما هذا الانشغال يطول جداً، في حين ينشغل الأبناء بمثل تلك القدوة التي لا تمثل بالمجتمع شيئاً..
- الأب الحريص هو الذي يستفسر عن عالم أبنائه الافتراضي، ولا يتركهم بين التقنية وعالم "سيري" الذي يجيب لهم عن أي تساؤل يطرحونه، والأب الناضج هو من يستشعر الحوار بينه وبين أبنائه فهي محاور ذات أبواب كثيرة كاحتضانه بين الحين والآخر مما يجعل الابن يحب العودة إلى ذلك الحضن، كذلك تفعيل المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها من الأنشطة الترفيهية الأخرى، فتكون أرضية خصبة لجذب الأبناء، والمتابعة المكثفة والتخلي قليلاً عن عالمه لأجل أبنائه وأسرته.
كذلك الأم يجب عليها أن تتفرغ قليلاً لاحتواء أسرتها بالكامل،والتوازن مطلوب بين الاحتواء النفسي والفعلي لهم.
ومن الواجبات الأخلاقية على الأسر متابعة أصدقاء أبنائهم، ومرافقتهم في كثير من أنشطتهم المحببة كالذهاب إلى السينما أو المخيمات والرحلات الصيفية وغيرها لخلق جسور تواصل متينة بينهم.
*القوانين المنزلية*
* كيف يمكن لأبناء هذا العصر المعروفين بالمزاجية، والأكثر تعبيراً وحرية واستقلالية بذواتهم أن يتقبلوا فكرة قوانين في المنزل الذي يعيشون فيه؟
- أدوات العمل في كل مكان، ولا سيما الشركات، ولا بد من فرض القوانين لتكون إلزامية في تسيير العمل بطريقة سلسلة وإيجابية، حتى المنازل يجب مناقشة من فيها على مستويات المعيشة من تكاليف ومصاريف مالية للماء والكهرباء والأكل وغيرها، هذه المناقشات تصدر قرارات وقوانين يلتزم بها الجميع عن رضا وتشاور، وليس أفضل من شهر رمضان الكريم في إرساء مثل هذه القوانين، كإعطاء كل وقت حقه من عبادة وتنظيف وتنظيم حصص ثقافية وغيرها، كذلك توزيع الأدوار في طرق المعيشة كلها تخلق جواً من القوانين المطلوبة والتي يجب أن يعتادها الأبناء ليحل النظام في حياتهم وتتزن.
*يدخل أبناؤنا في "حالة الصمت الكبير" بمكوثهم الطويل أمام شاشات البلاي ستيشن وغيرها من ألعاب إلكترونية، هل تخلق مثل هذه الأجواء انفصالاً حوارياً بين الآباء والأبناء، وبينهم وبين أقرانهم في المجتمع خارج المنزل أو في المدرسة؟
- يؤرق هذا الموضوع بعض المجتمعات الحضارية في كل أرجاء العالم..
طرح البروفسور "إيثان مولك" من جامعة بنسلفانيا دراسة كاملة حول هذا الموضوع وتطرقتُ في إحدى مقالاتي عن ظاهرة استحواذ الألعاب الإلكترونية على الأطفال، ولا سيما لعبة "فورت نايت" التي تنمي ظاهرة العنف وتقبل الموت ببرود للأسف، فنقلا عن البروفيسور الأمريكي، Ethan Mollick، فإنه صُرف من الوقت على لعبة فورت نايت Fortnite في شهر واحد فقط أثناء فترة الحجر الصحي عام 2020 ما يتجاوز ثلاثة مليار ومائتي مليون «3,2» مليار ساعة لعب، وهذا الوقت كاف لبناء ما يعادل
457 مبنى بحجم Empire State Building الواقع بمدينة نيويورك الأمريكية أو بناء ما يعادل 29 قناة مثل قناة بنما المائية الدولية، ومن الطبيعي كلما كبر الابن يريد ساعات أطول لقضائها أمام الألعاب الإلكترونية،ولكن لابد من فرض ساعات معينة عند استخدام هذه الألعاب كقوانين منزلية، ويجب على الأبناء الموافقة بالتراضي على هذه الشروط، وإلا سوف يلعبها بعيداً عنك وبشروطه هو وأصدقائه.
وهناك الكثير من الألعاب التي تنمي روح المهنية أو الموهبة لدى الأبناء وتحاكي ميولهم كالألعاب التي تهتم بتطوير المهن " كالجراحة والطب والبناء الثلاثي الأبعاد وغيرها، وهي ألعاب وفي الوقت نفسه تنمي مهارات خاصة لديهم.
* خلفت جائحة كورونا أزمات نفسية واجتماعية، وقصص اكتئاب خصوصاً بين الأبناء وقد لوحظ هذا الأمر جليا عند العودة المشروطة والمؤقتة إلى المدارس بين الأبناء الطلبة، فكيف يتجاوز الأبناء تبعات هذه الأزمة؟ وما هي النصائح التي تقدمها لهم؟
- كورونا وقفة تصحيح في عالم السلوك وبنظرة إيجابية مع كل تبعات كورونا ولا سيما المالية والاقتصادية، إلا أن هناك فرصة إيجابية كبيرة لمراجعة الآباء والأبناء لوتيرة حياتهم اليومية، وفي معالجة علاقاتهم، والبدء في سؤالهم عن طموحاتهم وخططهم المستقبلية وعن أصدقائهم، وقد كنت شخصياً في بداية الجائحة تائها، إلا أنني عرفت كيف أرتب هذه الظروف في تسخير طاقات أبنائي ومواهبهم.
* ذكرتم أنه لا توجد إحصائية للنمط الخامس، إذن كيف نعرف تأثيره التوعوي على المجتمع؟
-النمط الخامس كخيار هو الأجدى، لأن الأسرة مبنية على المحبة لا على الصراع، وليس لدينا إحصاءات في هذا الأمر، ولكنه أمر ملموس وواضح، وهو ذو نتائج طيبة.
نرى بعض الأبناء كوادر في كثير من المجتمعات الطيبة الناجحة، ووقفنا على أسر كثيرة رأينا علاقتهم الطيبة بينهم وبين أبنائهم ومدى النجاحات التي حققت في مجتمعاتهم.
* هل نحن بحاجة إلى إعادة صياغة بعض مفاهيم التربية مثل بر الوالدين والاحترام وطبيعة العلاقة داخل الأسرة الواحدة بين الزوج والزوجة وبين الأبناء ومفهوم السلطة الأبوية كذلك؟
-نحن بحاجة إلى التفريق بين الهدف والغاية، فالهدف تكوين الأسرة كمشروع ناجح بدءً من الزواج الناجح وانتهاء بتربية الأبناء التربية الصحيحة، وبتخطيط سليم كعدد أفراد وموارد مالية وتكلفة تربيتهم هذا من ناحية مادية، وكذلك كم من مجهود يحتاجون لصقلهم بشكل جيد، ومن هنا يعتمد على نظرة الأب إن كان ينظر لنفسه أنه هو فقط رب الأسرة مادياً وسلطوياً ،أو كصديق وأخ وزميل ،فمن هنا تتغير المفاهيم وتتبلور حسب ثقافة الأب ونضجه، وأحياناً يتدخل أصدقاء السوء بالتأكيد في هدم هذه المفاهيم، ولكن يعتمد هذا على الذكاء العاطفي عند الأبوين في تسيير دفة نجاح العلاقات الأسرية.
* لماذا تميل فئة الشباب والشبات إلى الانفتاح الثقافي دون قاعدة صلبة من القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟
- نعم سبب الفجوة هو كلا الطرفين الأب والابن،إلا أن الأب أكثر رشداً وأكثر فهما للحياة، وهو القائد والقدوة، لذا عليه أن يبادر في أخذ زمام الأمور ويتبنى عدة أنشطة تجهض إقامة أي جدار عازل بينه وبين أي فرد داخل أسرته، وأول تلك المبادرات هي: التحسين المستمر في علاقته بشريكة حياته، فالابن يريد قدوة ناجحة لا كلاماً منمقاً وفعلاً متناقضاً،ومن المفترض أن يكون الأب قدوة ناجحة لأبنائه بالفعل والقول.
وهنا تكمن أهمية التواصل، ففي عالم إدارة المشاريع تعطى مفردة الاتصال ٩٠٪ من الأهمية.
جدير بالذكر أن المهندس أمير الصالح شغوف بالعلوم الاجتماعية والتربوية و مغرم بالتعرف على أنماط الحياة الشخصية والأسرية الناجحة، متمثلاً المقولة الشهيرة ” لا تلعن الظلام، ولكن أشعل شمعة”، تثيره صناعة المحتوى الهابط وغير المفيد الذي تعج به وسائل التواصل الاجتماعي فيدفعه ذلك لطرق أبواب مختلفة لإيجاد الحلول الأنجع في المشاركة لتوجيه أبناء المجتمع باللين والحكمة.
ولكون رصيده العلمي هندسياً، كانت كتاباته تركز على طرح الحلول بعد تشخيص المشكلة، وليس الانغماس في المشكلة والتفرج عليها والاكتفاء بالدعاء بالهداية.