مشهد تخيلي لتقنية الاستمطار العربي القديم + نبات العشر
من منا اليوم لا يعرف او سمع اقلها بعمليات الاستمطار الصناعي وهو ما يعرف بعملية تلقيح السحب وبذرها بمواد كيميائية مثل يوديد الفضة او الثلج الجاف (ثاني أكسيد الكربون الصلب) بواسطة الطائرات والصواريخ الجوية او بمولدات وقاذفات أرضية من اجل تكوين نويات تكاثف الثلج والمطر داخل الغيوم ثم هطوله للأرض .
وتجري هذه التقنية العديد من الدول في الآونة الاخيرة وفق شروط دقيقة طلبا للمطر الذي اصبح شحيحا في كثير من الدول نتيجة الاحتباس الحراري وارتفاع معدل غازات الدفيئة بعد الثورة الصناعية مثل غاز ثاني أكسيد الكربون المترشح من المصانع وحرق الوقود الاحفوري ونتيجة تدمير الغابات وصولا لطبقات الجو العليا مما زاد من ارتفاع درجة حرارة الأرض واتساع ثقب طبقة الأوزون الذي بدوره يسمح بمرور كميات كبيرة من الاشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس للأرض .
ويذكر التاريخ أن اولى محاولات الاستمطار اجراها نابليون القائد الفرنسي في القرن 17 الميلادي بواسطة قذائف مدفعية موجهة نحو السحب بغية تفريقها وانزال المطر ثم توالت المحاولات في اوروبا ثم أمريكا وانتشرت في كثير من الدول حاليا مثل الصين وأستراليا والهند وعربيا بدأت الامارات وعمان والأردن والسعودية .
الاستمطار يجري بعدة طرق واساليب منها الطبيعي عندما تقوم الرياح بتلقيح الغيوم بالهباء الجوي فيسقط المطر او الطرق العمدية مثل الطريقة الكيميائية المذكورة آنفا وحديثا ظهرت طرق جديدة مثل الاستمطار الايوني وكذلك الاستمطار بالموجات الصوتية وأيضا الاستمطار بنبضات الأشعة تحت الحمراء الليزرية وكل لها من الإيجابيات والسلبيات.
عندما كنت أقرأ حول هذا الموضوع الشائق ومنقبا عن تقنياته الحديثة وقع نظري على نصوص قديمة تذكر عمليات الاستمطار عند العرب القدماء وبالتحديد في حقبة ما تعرف بالجاهلية أي قبل حوالي 1500 عام قبل مجيئ الإسلام فكانت تقنية شائعة على ما يبدو آن ذاك تسمى بـ (التسليع او نار الاستمطار) تقام كطقس عبادي عند القحط والجدب وقلة المطر طلبا لنزول الغيث والمطر .
سأذكر النصوص الآن ثم التحليل والتعليق :
ورد في كتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – جواد علي – ج3
(فقد ذكر أهل الأخبار ان العرب كانت في الجاهلية الأولى اذا احتبس عنهم المطر ويئسوا من نزوله يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السلعَ والعشرَ (نوع من الاشجار) ويصعدون بها في الجبل الوعر ويشعلون فيها النار ويزعمون ان ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي:
لا در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعلٌ أنتَ بيقوراً مسلّعة .... وسيلة منك بين الله والمطر؟
وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب الى أمية بن أبى الصلت – شاعر جاهلي - ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطارْ.)
وفي كتاب معجم لسان العرب -ج8 لابن منظور الأنصاري ورد:
(كانت العرب في جاهليتها تأخذ حطب السلع والعشر في المجاعات وقحوط القطر فتوقر ظهور البقر منها، وقيل يعلقون ذلك في أذنابها ثم تلعج النار فيها يستمطرون بلهب النار المشبه بسنى البرق، وقيل: يضرمون فيها النار وهم يصعدونها في الجبل فيمطرون زعموا، قال الورك (قوله قال الورك في شرح القاموس: قال وداك.) الطائي:
لَا دَرَّ دَرَّ رِجَالٍ خَابَ سَعْيُهُمُ .... يَسْتَمْطِرُونَ لَدَى الْأَزْمَاتِ بِالْعُشَرِ !
أَجَاعِلٌ أَنْتَ بَيْقُورًا مُسَلَّعَةً .... ذَرِيعَةً لَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَالْمَطَرِ ؟
وقال أبو حنيفة: قال أبو زياد السلع سم كله، وهو لفظ قليل في الأرض وله ورقة صفيراء شاكة كأن شوكها زغب، وهو بقلة تنفرش كأنها راحة الكلب، قال: وأخبرني أعرابي من أهل الشراة أن السلع شجر مثل السنعبق إلا أنه يرتقي حبالا خضرا لا ورق لها، ولكن لها قضبان تلتف على الغصون وتتشبك، وله ثمر مثل عناقيد العنب صغار، فإذا أينع اسود فتأكله القرود فقط، أنشد غيره لأمية ابن أبي الصلت: (سَلَعٌ مَا وَمِثْلُهُ عُشَرٌ .... مَا عَائِلٌ مَا وَعَالَتِ الْبَيْقُورَا) وأورد الأزهري هذا البيت شاهدا على ما يفعله العرب من استمطارهم بإضرام النار في أذناب البقر.)
وذكر الجاحظ نار الاستمطار في كتابه الحيوان ج4:
(ونار أخرى وهي النّار التي كانوا يستمطرون بها في الجاهليّة الأولى فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات وركد عليهم البلاء واشتدّ الجدب واحتاجوا إلى الاستمطار استجمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثمّ عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السّلع والعشر ثمّ صعدوا بها في جبل وعر وأشعلوا فيها النّيران وضجّوا بالدّعاء والتضرّع فكانوا يرون أنّ ذلك من أسباب الشّقيا ولذلك قال أميّة بن أبى الصلت:
سنة أزمة تخيّل بالنّاس ... ترى للعضاه فيها صريرا
إذ يسفّون بالدّقيق وكانوا ... قبل لا يأكلون شيئا فطيرا
ويسوقون باقرا يطرد السّهل .... مهازيل خشية أن يبورا
عاقدين النّيران في شكر الأذناب .... عمدا كيما تهيج البحورا
فاشتوت كلها فهاج عليهم ... ثمّ هاجت إلى صبير صبيرا
فرآها الإله ترشم بالقطر .... وأمسى جنابهم ممطورا
فسقاها نشاصه واكف الغيث .... منهّ إذ رادعوه الكبيرا
سلع ما ومثله عشر ما .... عائل ما وعالت البيقورا)
في الحقيقة ما شدني الى هذه النصوص وإن كانت كما نلاحظ انها مستهجنة ممن يرونها ويعتبروها كطقوس جاهلية وغير صحية ومعابة فنحن هنا لسنا بصدد تقييم العملية من الناحية العقائدية التعبدية ولكن من أجل إيجاد وكشف رابطة خفية بينها وبين عملية الاستمطار الحديثة ومدى التشابه التقني في أغلب الاشتراطات العامة من ناحية المقدمات والإجراءات والنتائج وكذلك من اجل استخلاص المعرفة والتجربة لأهميتها العلمية.
فبات من المعروف ان عملية الاستمطار الطبيعي تحتاج إلى التأليف بين جزيئات بخار الماء في الغيوم ورياح محملة بمواد التلقيح من الأرض حتى تبدأ بالتكاثف وتشكل نواة أولية ثم تكبر لتشكل قطرة ماء لا تستطيع الغيمة حملها فتسقط على الأرض وهو قول الله تعالى { وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } (سورة فاطر 9) .
فنلاحظ أن عملية العرب القدماء في الاستمطار كانوا يفعلون نفس المقدمات بعلم وتجربة او من دون علم بالتفاصيل التي لم تكتشف إلا حديثا وإنما كانوا على يقين بفاعلية هذه الطريقة في حث الغيوم بإنزال المطر وكما قرأنا عاليا فقد كانت تنجح بالفعل عندهم فعندما يقومون بجلب مجموعة من الابقار وتربيطها بنوع خاص من الشجر والحطب ثم إشعال النار فوق الجبال العالية الوعرة فهذا العمل القصد منه تصاعد الدخان والمواد الناتجة من الاحتراق تجاه الغيوم في السماء مما يساعد على تلقيح وحقن السحب بالمواد الضرورية المساعدة لإنزال المطر .
ولكن لماذا اختيار الجبال الوعرة؟
لأنها تكون أقرب للسحب لارتفاعها والسبب الآخر لأن الجبال العالية تتكون فيها تيارات هوائية صاعدة للأعلى تساعد على حمل مواد التلقيح والابخرة للغيوم سريعا .
ولماذا اختيار شجر ونبات السلع والعشر؟
أولا: لأنه متوفر بكثرة في الجزيرة العربية موطنه الأصلي عند سفوح الجبال والمنخفضات وخاصة في الجنوب الغربي منها وهذا ما دعا الشاعر الجاهلي أميّة بن أبى الصلت يذكره في شعره وهو من بني ثقيف ابن مدينة الطائف المشهورة بجبالها الشاهقة حيث نرجح موقع حادثة الاستمطار .
وثانيا: نبات السلع في الهند يسمى بشجرة الشيطان ونبات العشر عند العرب يسمى بشجرة الجن فنلاحظ ارتباطهما باستدعاء الجن للمساعدة في انزال المطر بعد الحرق باعتقاد العرب القدماء ..
إلا ان حقيقة هذه الأشجار تكمن في مكوناتها الفارقة فاللحاء من الخشب الفليني الخفيف ينتج عصارة حليبية صمغية وكذلك الثمار مغطاة بخيوط بيضاء كالحرير تشبه التفاحة بداخلها الياف واملاح والازهار عطرية ذات روائح نفاثة.
كل هذه المكونات عند حرقها تنتج غبارا ودخانا مميزا يحتوي على جزيئات متناهية الصغر من الاملاح والابخرة المتفاعلة كيميائيا تصعد للأعلى بسهولة تذرها الرياح الصاعدة من الجبل نحو السحب لتتم عملية التلقيح بفعالية اكبر.
والعلم الحديث يذكر دور البخار المحمل ببلورات الأملاح في عملية تلقيح الغيوم ونزول المطر والتأثير على المناخ وكذلك الدور المفصلي للغبار المحمل من الأرض في الغلاف الجوي بما يحتويه من جسيمات دقيقة تجمعت من حبوب لقاح النبات والأشجار المحترقة ورمادها او ابخرة البراكين وأيضا تنتج من تحلل جلود الحيوانات والحشرات الميتة ومن غبار نحت الجبال والرمال وانجراف التربة وحرثها ..
كل هذا يؤكد على صحة فعلتهم وطريقتهم في الاستمطار العمدي وإن كانت متلبسة بمظهر التعبد الميثولوجي إلا انها تنم عن علم ودراية وتجارب عملية حتى وإن كانوا لا يعلمون التفاصيل الدقيقة لما يحدث من تفاعلات مناخية ولكن العبرة في نهاية الامر بالنتائج لنكتشف جهلنا بهم بعد 15 قرنا من الزمان فهم حقا فهموا قوانين الحياة الطبيعية وقاموا بالاستمطار قبل غيرهم وقبل عصر الأقمار الاصطناعية والرادارات الجوية وعمليات التلقيح بالطائرات والله يقول { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة الجاثية 13)
فها هي الصين اليوم تقوم بعمل اكثر من 500 غرفة احتراق فوق مرتفعات التبت الشاهقة لحرق يوديد الفضة من اجل الاستمطار بنفس تقنية العرب القديمة مع اختلافات بسيطة بحكم التقدم العلمي والنهضة الصناعية الحديثة.
فينبغي علينا نشر معارف العرب القدماء الصحيحة وعلومهم ما دامت لا تتعارض مع العقيدة والعلم والاستفادة من كنوز المعلومات الخفية واكتشاف اسرار مواد جديدة تدخل في عمليات الاستمطار وتقنيات قد تكون ذات فاعلية لا نعلمها فقد سبقوا العرب الجميع في هذا المضمار الهام فينبغي ان تسجل لهم الاسبقية في تقنية الاستمطار وليس كما يشاع ومدون عالميا وإعلاميا عن أولى التجارب.. هذا والله اعلم .