تظل الكلمة مجهولة الرموز والمقاصد حتى يطلقها صاحبها ، واللسان الذي جعله الله لنا أداة تواصل مع الآخرين هو الذي يترجم هذه الحروف إلى كلمات ثم جمل فحديث ، يتحول إلى خطبة أو موعظة إلى فرد أو جماعة لأغراض متنوعة وأهداف متعددة .
كلما كانت الكلمة – وأعني بها – الحديث شيقًا ومحددًا وواضحًا ، كلما أزاح عن صاحبه عناء الفهم الخاطئ الذي ربما يسكن في عقول بعض المستمعين ، فمتى ما كان المتحدث بارعًا ملمًّا بأجزاء حديثه ، متداركًا الوقت المتاح له ، عارفًا بعقول وتوجهات مستمعيه ، كان قريبًا إلى إيصال رسالته في وقت مناسب ، دون حاجته إلى الإسهاب الممل ، حيث الابتعاد عن فكرته التي ربما لا تحتمل بضع دقائق إلا أنه بتكرار ما قيل يأخذ من وقت الجميع ، فيعود للمربع الأول الذي كرره في المربعات السابقة .!
رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام وأهل بيته الطاهرين ، هم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وأمراء البيان وأعمدة المنطق والكلام ، ولا شك أننا نعلم أن نبينا ما ينطق عن الهوى ، وأهل بيته نهلوا من منبعه وساروا على نهجه ، والحديث على ألسنتهم كالعسل المصفى ، لا يحتمل الخطأ ، ولا يخالجه الشك ويخلو من الفحش واللغو .
عندما نستمع إلى خطب النبي الأعظم ، أو قصار كلماته ومواعظه ، يتبادر إلى أذهاننا هذا السؤال ، هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب في قومه الخطبة مع شرح مفرداتها ؟
وبحسب فهمي القاصر فإن المجتمع آنذاك حباه الله بلغة واضحة ولسان فصيح ، فقد كانوا متمكنين من اللغة ولديهم معرفة كبيرة بالألفاظ والمقاصد ، وإن كان جزء منهم منكرون لنبوة النبي أعني الكفار في الجاهلية إلا أن لغتهم قوية وسليمة .
فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة إلى شرح ما يقوله ، فكانوا يقرؤون الشعر وتحدث بينهم المساجلات ويروون القصص بسليقتهم ، فيفهمون الحديث بسهولة ، وذلك زمن يختلف عن زماننا حيث التغيرات في الوقت والمكان والظروف والمعطيات .
الخطيب في عصرنا لا يمكنه أن يسرد خطبته دون تفاصيل ، لأن عقول الناس تختلف في الإدراك والفهم والتأويل ، فحسبه أن يقول مثلًا : تبًّا لكم ، دون تحديد الشخوص ، إلا ورمى كل شخص هذه الكلمة وفصلها على مقاسه وكأنه المقصود !
من ذلك نقول أننا أمام حاجة ماسة لشرح حديثنا حتى نوصل رسائلنا بأسلوب مباشر دون احتمالية التأويل التي تدخلنا في محطة التجاذبات والاحتمالات والاجتهادات .
نكرر دائمًا عبارة في معرض حديثنا عن الأطفال : التكرار يعلّم الشطّار ، وبعيداً عن الخوض في لفظة ( الشطّار ) والمقصود منها ، إلا أنها لفظة دارجة يقصد بها المتميزون ! وربما هذه العبارة تتناسب مع الأطفال لأنهم يحتاجون إلى تكرار المعلومة مرارًا حتى تستريح في عقولهم ، من ذلك تكرار سور القرآن والأناشيد والنصائح ، وهم في عمر لا يبدو عليهم التذمر واضحًا حتى وإن شعروا به .
أما إذا وضعنا هذه العبارة على مستوى الكبار ، فأظن - والله أعلم - أن نسبة كبيرة منهم يمقتون كل متكرر حتى عندما يتناولون أقراص الدواء ، رغم أن فيه صحتهم إلا أنهم يملون من ذلك .
وأنا هنا أضرب هذه الأمثلة البسيطة لأصل إلى أمر في غاية الأهمية ألا وهو ( الأسلوب ) ! نعم كل شخص له طاقة في الاستماع أو السماع ، ولا تستطيع أن تجبر أحدًا على سماعك ، لأن الإجبار يحدث النفور ويفقد الرغبة في الفائدة ، وبذلك لن تحقق أهداف خطابك .
الأسلوب هو أداتك للتأثير في الآخرين ، فكم من إنسان سرق ألباب من حوله بأسلوبه ، وأسر قلوبهم بمنطقه وطيب كلامه ، وأوجد الأثر الكبير في نفوسهم ، وهذا غاية لابد لكل متحدث أن يصل إليها ، والوصول إليها يتطلب جهدًا في المعرفة ودراسة السلوك وسعة الاطلاع ، والإلمام بلغة الجسد ، وهذه الأشياء كما هي مهمة لدى الجماهير فهي أشد أهمية للمتحدث نفسه .
باستطاعتي أن أكون مؤثرًا بكلمات قليلة وحديث مختزل ، وخير الكلام ما قلّ ودل ، قاعدة لابد أن يستحضرها كل خطيب أو متحدث ، فلكي يصل إلى الجميع ويتحدث بخير الكلام لابد أن يختار كلامًا له دلالة ، فمن خلال جودة بحثه وتحضيره سيرتب أفكاره بكلام قليل ودال ، وهذا ما نفتقده وللأسف عند بعض المتحدثين ، حيث التكرار الممل والأسلوب الباهت ونبرة الصوت الصاخبة ، واللعب بمعادلات الوقت !
فعندما تستمع إلى موضوع حديثه تفهمه دون أن يتحدث ، وسرعان ما يدخل في صلب الحديث تجده مشرقاً ومغرباً دون مبرر ، ثم يعود ليذكر بما ذكره في استهلال حديثه من آية أو رواية !
في بعض المواقف يكون التصريح أفضل لغة تخاطب بها المستمعين ، فلا داعي لاستخدام الرموز التي تتطلب مفاتيح لتشفيرها ، وفي بعض المواقف تضطر للتلميح ، ولكن يجب أن تختار لغة حديثة راقية لذلك ، فاللبيب من يتحدث آمنا من سقطات لسانه وتبعاتها .
أنا هنا أدعو لتجديد نمطية الخطاب في مجتمعنا ، مع مراعاة متغيرات الحياة ، واقتحام مواقع التواصل الاجتماعي بيوتنا وعقولنا ، وما أحدثته التقنية الحديثة في تغيير أفكار شبابنا ، ولكي نبقي على ما بقي من جمال الزهرة لابد أن لا نثقل عليها بالري ، ونتفقد جذورها وأوراقها بطريقة أنيقة ؛ لنستفيد من ظلها وجمالها ولا نخسرها .
التعليقات 1
1 pings
حسين احمد الاحمد
2021-05-29 في 4:07 ص[3] رابط التعليق
كلام من ذهب ، الخطاب في مجتمعنا الحاضر تلازمه الاهات والتحسر او الإحباط
قلما تجد المتحدث اللبق الواضح الذي يشدك لحديثه حتى آخر كلمة.
المضحك المبكي عندما تجد الخطيب أو المتحدث يجتهد دون إدراك بأساسيات الخطابة وأساليب الشد والجذب ، فتلقاه يشرق ويغرب ويدس الكلمات المزركشة -حوزوية او فلسفية- ويكررها العشرات في خطبته والمصيبة أنه يظن بنفسه أنه خطيب فذ عندما فعل !
ركاكة الخطابة أظنها لاتخلو من أمرين أعتقدهما من عدة أمور:
أولا ، عدم التحضير الإلقائي ووضع نقاط بدون التفكير في طريقة العرض للجمهور
ثانياً ، مجتمع يخلو من متحدثين أكفاء يجعل الآخرين أن ينظروا لأنفسهم فيقلدون أو يتنافسون وهذا أصبح أوسع في زمننا الالكتروني حيث أمكانية سماع الكثير من الخطباء المؤثرين والتدريب أو على الأقل التقليد لهم حتى التمكين ، وبهذا يسقط عذر محيط المجتمع .
كل هذا يضاف إليه الموهبة والمَلَكة الفطرية فإنهما يدفعان الخطيب بشكل أسهل عن غيره في إتقان قول الخطب المؤثرة
شكراً بومنذر ، مقال قيم