الريح راكدة لكن الطقس قارس البرودة والهدوء يعم المكان فوق سفح تلٍ صغير بني على أرضه المرتفعة فندق صغير كان يستقبل زوار مدينة بغداد العراقية، يشتت هذا الهدوء بعض الأهازيج الآتية من قبو ذلك الفندق يبدو أن لساكنية احتفالية خاصة جعلت أصواتهم تتعالى في هذا الليل البهيم.
كان مصطفى يراقب باب الفندق الرئيسي لعل زائر من سكانه يخرج لقضاء حاجة ما من المدينة أو للصلاة في الجامع القريب من الفندق أو لأي شيء، وكان يمسك بين يديه رزمة من الجوارب السوداء والملونة داخل أكياس صغيرة، ورغم قساوة البرد إلا أنه ظل واقفا يجوب المكان جيئة وذهابا عند حدود الفندق، تأخر الوقت وهدأت الأصوات ولربما نامت بعض العيون، وتوسد مصطفى صخرة مقاوما نعاسه الشديد ولكنه استسلم للنوم فجأة.
عند الثالثة فجرا قررت عائلة "ايهاب" أن تخرج للصلاة الى الجامع القريب ومع خروجها قبيل إشراقة الشمس بساعتين مروا على الصخرة التي توسدها مصطفى ولأن الظلام كان كثيف عثرت سندس برجل مصطفى فكادت أن تسقط إلا أن مصطفى انتبه من نومه فزعا وهو يقول آسف يا أختي لم أنتبه لمرورك.
نظرت سندس ووالدتها ووالدها وأخيها أحمد الى مصطفى رث الثياب،صغير السن، لم يتخطى عمره العشر سنوات.
وسألت الأم ما الذي أتى بك يا صغيري إلى هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل، لم يجبها مصطفى بالكلام فقط هم بإخراج أكياس الجوارب وقال بصوت مبحوح هل تشترين سيدتي من هذه الجوارب؟ فأنا لم أبع شيئا منها شيئ منذ الأمس إلا قليلا وأخشى أن أعود بنقود زهيدة إلى والدتي فتوبخني.
مسحت الأم هيفاء على رأس مصطفى قائلة (آه صغيري .. ما الذي يجبرك على كل هذا الشقاء؟) تلألأت عيني مصطفى كنجم أضاء في عتمة السماء وهو ينظر إليها، ثم هتفت سندس أمي هيا سنتأخر عن صلاة الفجر، وهنا تكلم الأب بالإيجاب قائلا نعم بالعفل سنتأخر هيا يا هيفاء إنها العراق وما أدراك ما العراق.
دست الأم هيفاء بين يدي مصطفى قليل من النقود وقد أخذت جوربا أسود اللون وهرعت بالمضي نحو الجامع تابعة لبقية عائلتها التي سبقتها بخطوات، هيفاء التي أخذت تلف الجوارب في داخل شنطتها حانت منها التفاتة الى الوراء لترى هل ما زال الصغير يقف أم أنه عاد الى منزله ليكمل نومه فما زال صغير وبحاجة الى الدفء والحنان، وما ان التفتت حتى رأته يتكأ على الصخرة ذاتها يعد ما كان بين يديه من نقود قد أعطته إياها وكانت تفوق كل ما كان يحلم أن يحصل عليه حتى لو باع كل الجوارب التي بين يديه.
أشرقت الشمس وتوسطت سماء العاصمة وعم المكان حركة الناس والسيارات والعربات في منظر ساحر ينذر بيوم تعمه أحداث جميلة ساخنة، فقد قررت عائلة إيهاب بأن تتوجه في هذا اليوم الى مكان آخر في بغداد تزوره وتتزود من جمال حضارته بعدا ثقافيا جديد، فهاهي تخرج ومعها حقائبها وتركب الحافلة وما أن جلست سندس على كرسيها حتى شهقت قائلة أمي: لقد نسيت شيئاً في الغرفة يخصني فهل لي بالعودة اليها لإحضاره؟ رمقها والدها بطرف عينيه معلنة عن غضب صغير قلما يخرج من هذا الأب الحنون قائلا لها بسرعة يا سندس فالحافلة تكاد تتحرك.
دلفت سندس بسرعة الى الفندق متوجة إلى غرفتها وسحبت حقيبتها الصغيرة المليئة بمدخراتها المالية كلها وخرجت متجهة الى الحافلة، بعد مضي نصف ساعة من انطلاق الحافلة سألت الأم سندس ما الذي أحضرتيه من الغرفة في فضول الأمهات المعهود نحو أبناءها، تبسم الجميع بشغف لما سيسمعونه منها لكن سندس أومأت لهم بالرفض.
عند قرب مغيب الشمس عادت العائلة من رحلتها الثقافية الجميلة متعبة منهكة من طول الطريق لكنها سعيدة للإرث الذي تحصلت عليه من هذه الزيارة وهمت بالخروج من الحافلة مع من كان معهم في نفس الرحلة ممن يسكنون الفندق ذاته أما سندس فقد كانت تعمدت أن تكون آخر من يخرج من الحافلة بعينين تدور مدار الرحى تبحث في الأرض وفي الأفق القريب عن عيني مصطفى!
سندس: هتف أحمد بإسمها .. هي الى الداخل ماذا تنتظرين؟
لا شيئ ها أنا ذا قالت سندس: وما أن تحركت حتى سمعت صوت مصطفى ينادي بصوته الطفولي، جوارب للبيع فهل تشتري يا سيدي، التفت اليه فرحة ونادته مصطفى تعال، جاءها الصغير مسرعاً ماذا سيدتي هل تريدين جوارب؟
ابتسمت سندس اليه وقالت: تفضل لقد اشتريت لك هذا وراحت مسرعة وسط دهشته اختفت سندس داخل الفندق الذي كان يقف مصطفى على بابه فهو لأول مرة في حياته يعطى هدية جديدة بدون مقابل.
فتح مصطفى الكيس وجد به ملابس جميلة تناسبه وحذاء وشنطة ثم راح يقسم ما وجده الملابس لي والحذاء لأخي الصغير لأنه أصغر من مقاسي أما الشنطة فسأعطيها أختي بالتأكيد فستفرح بها كثيرا.
يوم جديد وإشراقة أخرى وما زال صوت مصطفى في الجوار ينادي جوارب للبيع هل تشتري مني يا سيدي وأنت يا سيدتي؟ جوارب ... جوارب، لكن هذه المرة كان مصطفى يرتدي ملابس نظيفة وجميلة أرست السعادة على قلب سندس حين رأته يرتدي ما اختارت له وما خمنت أنها مناسب لمقاسه، كانت هذه آخر لوحة تشاهدها العائلة في ذلك الصباح إذ كانت متوجهة الى المطار مغادرة بغداد مودعة الجمال والحضارة وبائع الجوارب الصغير مصطفى.