سنحصر الحديث في هذه الفقرة حول غيبة الإمام المهدي (ع) وطول عمره المبارك ونربطهما بما توصلنا اليه من الخصائص العميقة لروح القدس واثره في كيان من اجتباه الله ووهبه إياه ومن ضمنها تسخير حركة الأرض وقوانينها لصالحه الامر الذي نحسبه اعجازا بالنسبة إلينا اما عند احباب الله واصفيائه هو امر طبيعي يمارسونه وقت شاءوا.
الامام المهدي بن الحسن (ع) هو ثاني عشر أئمة المسلمين المنصوص عليهم وآخرهم فلا بد من وجود دلائل تدل على إمامته تميزه عن مدعيها ومن ابرز تلك العلائم وجود روح القدس فيه فكما اسلفنا حول روح القدس الخاص بالنبي محمد (ص) الذي لم يصعد للسماء بل ظل متنقلا من إمام للذي يليه للدلالة عليه والاستفادة من علمه وارشاده وقد نقل لنا التاريخ بعض آثار هذا الفيض الرباني الخاص كولادته الاعجازية وغيبته الصغرى وغيبته الكبرى الحالية وطول عمره الشريف الممتد لقرابة (1187) عام هجري مع العلم انه سيظهر في صورة شاب دون الأربعين سنة فقال عنه الامام جعفر الصادق (ع) خامس أئمة المسلمين (ثمّ يغيب غيبة في الدهر ويظهر في صورة شابّ موفق ابن اثنين وثلاثين سنة، حتَّى ترجع عنه طائفة من الناس، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) وأيضا قال عنه (ويظهر وهو شاب حزور، قال المفضل: يا سيدي يعود شابا أو يظهر في شيبته؟ فقال عليه السلام: سبحان الله، وهل يُعرف ذلك، يظهر كيف شاء وبأي صورة شاء، إذا جاءه الامر من الله تعالى مجده وجل ذكره) وكذلك قال عنه الامام علي الرضا (ع) ثامن أئمة المسلمين (وإنَّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبّان، قويَّاً في بدنه حتَّى لو مدَّ يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها) وقال أيضا (علامته أن يكون شيخ السن شاب المنظر، حتى أن الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها، وأن من علامته أن لا يهرم بمرور الأيام والليالي حتى يأتيه أجله) وتبرهن لنا هذه الخصائص الغير اعتيادية على مدى تأثير روح القدس الذي يعيش بين جنبات الامام المهدي (ع) على المستوى الجسدي.
غيبة الامام المهدي ع وطول عمره فيهما الكثير من الكلام والالتباسات بين منكر ومصدق ومؤمن وجاحد وبين مستعجل ومرتاب هكذا تدور حولهما الآراء فقد نبه آباءه أئمة المسلمين الاطهار (ع) من قبل ولادته بعشرات السنين عن كيفية ولادته وغيبته وطول عمره وحيرة الناس فيه للدرجة التي سينكر البعض ولادته وغيبته عن الأنظار فضلا عن طول عمره حتى روي عن الامام الحسن بن علي (ع) ثاني أئمة المسلمين قوله (فإن الله عز وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الإماء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صوره شاب دون أربعين سنة وذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير) وروي أيضا عن الامام محمد الجواد (ع) تاسع أئمة المسلمين قوله (إن الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري وقوله قولي وطاعته طاعتي ، والامام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت . فقلت له : يا ابن رسول الله فمن الامام بعد الحسن ؟ فبكى عليه السلام بكاء شديدا ، ثم قال : إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر . فقلت له : يا ابن رسول الله لم سمي القائم ؟ قال : لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته . فقلت له : ولم سمي المنتظر ؟ قال : لان له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون ، ويكذب فيها الوقّاتون ، ويهلك فيها المستعجلون ، وينجو فيها المسلمون) .
تتباين ردود الناس حول غيبة الامام المهدي (ع) رغم وضوحها لمن تمسك بالنبي محمد (ص) والائمة الاثنا عشر (ع) من بعده وارشاداتهم .. فهو حي يرزق منذ العام 255 للهجرة الى يومنا هذا يعيش بين ظهرانينا فمن الناس من قال انه يعيش في المدينة المنورة او مكة او العراق او ايران او في جبل طوى او متنقلا بين مشاهد آباءه الكرام ومقاماتهم في مختلف بقاع الأرض وفي آخر الصيحات من قال انه لا يعيش على كوكب الأرض بل في عالم برزخي آخر او رفع للسماء فقد وصل الحال كما وصفه الامام جعفر الصادق (ع) بقوله (أنى يكون ذلك ولم يستدر الفلك حتى يقال: مات أو هلك، في أي واد سلك؟).
اما نحن هنا سنحاول إيجاد مقاربة علمية نأمل ان تكون مجانبة للصحة ومختلفة عن الاطروحات السابقة المتداولة في النمط الديني التقليدي من حيث تشبيه خفاء ولادته وغيبته وطول عمره ببعض الأنبياء والرسل.. ولكن سنتبع طرحا علميا كما بدأنا ذلك وفصلنا في مدى تأثير روح القدس على الائمة (ع) والامام المهدي (ع) ليس بمستثنى منهم فهو وريثهم في صفاتهم وسماتهم وحامل مفاتيح علومهم ومعاجزهم فقد أراد الله له طول العمر وحفظه بعيدا عن اعين الطغاة للمهمة الضخمة التي سينفذها حين يأمره الله بذلك وكي لا يكون مصيره كآبائه الطاهرين الائمة الاحدى عشر (ع) الذين سبقوه فقد قضوا بين تشريد وسجن وسم وقتل على ايدي عتاة البشر المنافقين المتلبسين بالدين لهذا قدّر الله القادر القدير ان يحفظ آخر شعلة اوقدها من نوره للبشر لذلك اليوم الموعود وحتى الوقت المعلوم وكأن البشر لا يستحقون هذه الهدايا الربانية فجعلهم في تيه وحيرة كي يدركوا مدى بجاحتهم وظلمهم وحياتهم الناقصة من دون امام ظاهر يهتدون بنوره الواضح وصراطه المستقيم..
والسؤال المطروح هو اذن اين يعيش طوال هذه السنوات ؟ وكيف ؟
توجد اطروحتان استخلصهما الشهيد الصدر الثاني من الروايات الشريفة هما أطروحة خفاء العنوان أي انه يعيش بيننا ويشاهده الناس إلا انه لا احد يعرف هويته الحقيقية او يعرف مكانه بالتحديد لأنه يظل متنقلا بين البلدان والمدن حتى لا ينكشف امره.. واما الاطروحة الأخرى هي اطروحة خفاء الشخص أي يكون غائبا اعجازيا بالجسد ولا احد يستطيع مشاهدته او الوصول اليه ..
وفي الحقيقة نحن هنا نعتقد بكلا الاطروحتين وبالتوليف بينهما نجد ان الإمام المهدي (ع) لا يعيش في عالم آخر بل يعيش على الأرض طبيعيا بمساندة القابليات التي وهبها الله اياه عن طريق روح القدس وإمكاناته الخاصة (وأيده بروح القدس يا رب العالمين) فمن خلال القصص والوقائع الموثقة من علماء الامة وثقاتها طوال امتداد عمره الشريف واللقاءات التي ظهر فيها اثناء قيامه بأحد ادواره تجاه البشر عندما كانت تستدعي تدخلا منه ومنها أيضا ليطمئن اتباعه بحقيقة وجوده وامامته بين فينة وأخرى وانه مازال حي يرزق تحت العناية الإلهية وألطافها فالوقائع تذكر انه ليس له عنوان محدد فقد شوهد في العراق وفي ايران ومكة والمدينة او في طريق لإغاثة ملهوف مضطر في شتى بقاع الأرض (وهو الذي تطوى له الأرض ولا يكون له ظل) حيث مسافة محيط كوكب الأرض تصبح لديه صفرا فهو من تطوى له الأرض طيا أين شاء وحيث المصلحة الملحة بالتوجيه الإلهي فله قابلية التحول بين ذرات عالم المادة وذرات عالم الغيب الملكوتي بمستوياتهما المختلفة بما يحفظ بقائه وبما لا يتعارض مع غيبته الكبرى فنلاحظ هذه الاستنتاجات عبر العشرات من اقوال وردود أفعال من التقاهم وشاهدوه بأم اعينهم وحواسهم الواعية فنستنتج من ذلك..
أولا ..
عدم معرفة الرائي له اثناء لقائه والحديث معه انه الامام المهدي (ع) لقدرة تشكله ظاهريا بالصورة والهندام الذي يكون مناسبا للزمان والمكان الحالي .
ثانيا ..
طريقة دخوله في المشهد تكون بشكل طبيعي غير ملفت وغالبا ما يوصف بهيئة شاب عربي بهي الطلعة.
ثالثا ..
تأثير (مجال روح القدس الذبذبي) للإمام المهدي (ع) اثناء تواجده على وعي وتفكير الرائي حيث تكون خواطره متجهة نحو مشكلته وخلاصه وعدم معرفته مؤقتا بمن يقف امامه.
رابعا ..
طريقة الخروج من المشهد والاختفاء المفاجئ (الغير طبيعي) في الكثير من الوقائع مما يعطي الرائي لغة تنبيه وإشارة قوية بعد ان سحب الامام المهدي (ع) تأثير مجاله الروحي المقدس بمجرد مغادرته فيبدا الرائي بتحليل الموقف وباسترجاع شريط المحادثة وكيف لهذا الشخص المنقذ معرفة اسمه دون سابق معرفة وتفاصيل تفكيره الداخلي ومشكلته رغم انه لأول مرة يراه او يلتقي به او في موقع حيث لا يمكن لاحد ان يجده فيه بهذه السهولة وكأنه مرسل اليه من الله خاصة!! فيتأكد ان هذا الامر لا يستطيع فعله الا انسان واحد يعيش على وجه هذه الأرض هو الحجة على البشر وإمامهم الموكل بشؤونهم المؤيد من الله بروح القدس .
ولا شك ان الامام المهدي (ع) يتمتع بخصائص علمية وتكوينية متقدمة عن عصرنا الحديث وهبها الله اياها عن طريق مرشده روح القدس تفوق ما قد نتصوره من علوم وامكانات فنحن هنا فقط نحاول طرح مقاربات علمية وتطبيقية بحسب مستوى الفهم البشري في العصر الحالي وإلا عند ظهوره العلني ستتجلى هذه القدرات والمواهب الى واقع ملموس للبشر سيعم بها الخير ارجاء المعمورة وستزدهر اضعافا مضاعفة عما عليه اليوم من تقدم يعتبر متواضعا بالنسبة للعهد القادم حين تتفتح الآفاق ويصبح عالم الغيب بمثابة عالم المشاهدة في بعض جوانبه على يديه .
تجدر الإشارة الى ان هذه المشاهدات الانتقائية للإمام المهدي (ع) لا تتنافى مع التوقيع الصادر منه في رسالته الموجهة لآخر سفرائه الأربعة قُبيل بدأ الغيبة الكبرى (يا علي بن محمد السمري اسمع! أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) لأن سياق ومتن الكلام يشير الى انه لا سفير خاص في الغيبة الكبرى مثل ما كان عليه الوضع في الغيبة الصغرى فكل من يدعي السفارة او النيابة الخاصة مقرونة بالمشاهدة العينية المباشرة بالإمام المهدي (ع) فهو كذاب مفتر .
واذا ما نظرنا للتوقيع من زاوية أخرى حول ادعاء المشاهدة فربما تعني انه من (ادعى مشاهدة الامام المهدي وقد اعلن ظهوره وخروجه علنا للبدأ بقيامه الموعود قبل وقوع علامتي السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر) أي لن يظهر الامام المهدي (ع) ويُشاهد بحقيقته الكاملة النهائية الا بعد ما ذكر من علامات حتمية الوقوع .. وهذا لا يتصادم مع الظهورات والمشاهدات الاستثنائية القصيرة المؤقتة في عصر الغيبة الكبرى حتى وان كانت غيبته تامة فهو لم يعلن ظهوره المرتقب لأحد ممن التقاه وشاهده فينبغي ان نفرق بين المشاهدات الاستثنائية المؤقتة للإمام المهدي (ع) في عصر الغيبة المناطة بتكليفه الشرعي تجاه البشر وبين المشاهدة الكاملة له ورؤيته.. والله اعلم .
(اللهم ولا تسلبنا اليقين لطول الأمد في غيبته، وانقطاع خبره عنا، ولا تنسنا ذكره وانتظاره والإيمان به، وقوة اليقين في ظهوره، والدعاء له والصلاة عليه حتى لا يقنطنا طول غيبته من ظهوره وقيامه، ويكون يقيننا في ذلك كيقيننا في قيام رسول الله صلى الله عليه وآله، وما جاء به من وحيك وتنزيلك، قو قلوبنا على الإيمان به حتى تسلك بنا على يده منهاج الهدى، والمحجة العظمى، والطريقة الوسطى، وقونا على طاعته، وثبتنا على مشايعته، واجعلنا في حزبه وأعوانه وأنصاره، والراضين بفعله ولا تسلبنا ذلك في حياتنا، ولا عند وفاتنا، حتى تتوفانا، ونحن على ذلك غير شاكين ولا ناكثين ولا مرتابين ولا مكذبين) .
ملاحظة:
البحث مجتزأ منه المقدمات حول روح القدس وتفاصيله مثل تعريفه وتأثيره ومستوياته وانواعه .. مراعاة لعدم الاطالة.
التعليقات 1
1 pings
محمد صباح
2022-03-19 في 2:22 م[3] رابط التعليق
احسنتم وبارك الله بكم جعلنا الله واياكم من انصاره (عجل الله تعالى فرجه الشريف )احيائاً أو امواتاً في ميزان حسناتكم عرفُ الناس بامامهم الغائب حتى لا ينسوه ويعدو انفسهم لنصرته