مهند يبلغ من العمر 43 عاما جاء إلى عيادة الموظفين للفحص الصحي بغرض الحصول على وظيفة كطبيب مختص بعلاج الأورام وأمراض السرطان في مجموعة مستشفيات وعيادات Memorialcare التي هي من أكبر المنظمات الطبية في البلاد. ومن أجل الحصول على تلك الوظيفة لابد من الموظف المتقدم أن يكون بصحة جيدة ليتمكن من أداء وظيفته بالشكل المطلوب. عند دخولي غرفة الفحص الطبي وجدت الدكتور مهند قلق جداً ,لدرجة انه لم يستطع الجلوس. هذا التوتر أثر على ضغط الدم 194/103 الذي تم قياسه 3 مرات في فترات مختلفة.. عندما سألته ما الأمر, ما الذي يجعلك قلقا ومتوترا؟ رد علي قائلاً : أنا كلما انتقل إلى مكان آخر لممارسة وظيفتي أشعر بقلق وتوتر شديد حتى أتكيف مع بيئة العمل الجديدة. بعد ذلك سألته هل لديك أمراض أخرى قال فقط لدي ارتفاع ضغط الدم وأنا أعالج نفسي بثلاث أنواع مختلفة من أدوية الضغط. يذكر لي الطبيب مهند قائلاً: على الرغم من أن المرضى يثنون على عملي كثيراً و مساعدتهم على تخطي المشاكل الصحية خلال رحلتهم مع مرض السرطان، انا ليس قادراً على السيطرة على هذا التوتر وتحسين مستوى ضغط الدم لدي.
هنا توقفت متأملاً قليلاً.. وسرعان ما أدركت أن هناك العديد من مقدمي الرعاية الصحية الذين يعالجون أنفسهم، مثل الطبيب مهند أو يهملون صحتهم بعذر العمل من اجل تقديم رعاية طبية أفضل لمرضاهم. الأطباء والممرضون والصيادلة وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية ليسوا في مأمن من الإصابة بالأمراض. في الواقع، قد يكونون هم أكثر عرضة للإصابة بأمراض جسدية ونفسية اجتماعية بسبب مسؤوليتهم الوظيفية. فإن مقدمي الرعاية الصحية معرضين لخطر أكبر للإصابة بالأمراض المعدية مثل الانفلونزا والتهاب الكبد وفايروس نقص المناعة. على سبيل المثال في الآونة الأخيرة، شهدنا كيف ان بعض الأطباء والممرضين فقدوا حياتهم بسبب تعرضهم لمرض كوفيد-19 ويعود ذلك إلى نقص المعدات الطبية. أيضاً هناك أمراض تتعلق بطبيعة العمل. فلقد اثبتت الدراسات أن الممرضين/ات هم أكثر عرضة للإصابة بألم في الظهر مقارنة بغيرهم بسبب الوظيفة التي تتطلب قوة الجسم أحياناً لمساعدة المرضى مع أمراضهم. فهناك دراسة تشير أن حوالي 76٪ من الممرضين/ات يعانون من آلام في الظهر بسبب مهنتهم الشاقة والمتعبة ذات الساعات الطويلة.
الصحة النفسية لمقدمي الرعاية الصحية هي أيضاً واحدة من أكثر القضايا الصحية المهملة في المجتمع. وبالمقارنة مع عامة الناس، أظهرت الدراسات أن واحد من كل أربعة من الأطباء المقيمين هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بالاكتئاب والقلق ومشاكل نفسية أخرى (2،3).
الطبيب او مقدم الرعاية الصحية قد يتعاطف مع المريض ويساعد في رفع معنوياته من خلال توفير الدعم النفسي له / لها وأحياناً يمتد هذا الدعم لأهل المريض عندما يحتاج ذلك. هذا الترابط العاطفي مع المرضى يمكن أن يجعل مقدمي الرعاية الصحية يتصورون إلى أنهم ليسوا بحاجة إلى الاستشارة أو الدعم النفسي.
كل ما ذكرناه أعلاه يؤكد أن الأطباء وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية معرضين لأمراض مختلفة، رغم هذه الحقيقة المثبتة فهناك نسبة كبيرة من هذه الفئة في المجتمع لا تسعى للحصول على الرعاية الصحية بالطرية السليمة. إحدى الدراسات تقول حوالي 80٪ من الأطباء المشاركين كان لديهم مرض واحد على الأقل، ولكن 35٪ فقط من هؤلاء سعى لاستشارة الطبيب (4). هناك العديد من العوامل التي قد تمنعهم من متابعة وعلاج مشاكلهم الصحية بالطرية السليمة. عوامل شخصية مثل عدم توفر الوقت، العار الاجتماعي، والخوف من إظهار الضعف أمام الآخرين أو عدم المعرفة بعلاج بعض الأمراض (5). هذه العوامل تظهر أيضاً بشكل كبير على الأشخاص الذين يميلون إلى تأخير طلب المساعدة لمشاكلهم الصحية أو لديهم صعوبة في أن يتعايشوا دور المريض.
لا يوجد مانع أن يعالج الأطباء وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية أنفسهم في حال تعرضهم لبعض الأمراض البسيطة (مثل نزلات البرد أو المعوية) أو عندما يتعرضون لحالة طارئة وليس هناك من يساعدهم. ولكن عندما يأتي الأمر إلى علاج الأمراض المزمنة هذا ليس بالأمر السهل. على سبيل المثال أمراض السكر وارتفاع الكولسترول يحتاج إلى متابعة منتظمة من أجل اجراء التحاليل المناسبة والتأكد من فعالية العلاج. وكذلك أيضاً عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية ، فهناك خطورة كبيرة عندما يقوم الطبيب بعالج نفسه ببعض المسكنات القوية والمهدئات ومضادات الاكتئاب.
زيادة الوعي بين هذه الشريحة من المجتمع هي الخطوة الأولى للحد من هذا السلوك الخاطئ. فيجب ان يدركوا أن الطريقة الصحيحة للتعامل مع المرض هي من خلال مراجعة واستشارة الطبيب المختص. لذا تنصح الجمعية الطبية الكندية الأطباء بشدة إلى تخصيص وقت لمراجعة طبيب الأسرة الخاص بهم لإجراء الفحوصات الدورية بشكل منتظم وطلب العلاج لأمراضهم المزمنة. يقول د. ناصر جوهر, استشاري قلب:
"لا يوجد مانع من علاج الطبيب لنفسه أو لعائلته، لكن يفضل ألا يقدم على ذلك حيث يوجد عرف طبي متعارف عليه بين الأطباء في جميع أنحاء العالم هو أن على الطبيب أن يتحاشى علاج نفسه أو أفراد عائلته، لأن الطب يعتمد على جانب علمي بحت ولا دخول للعواطف أو المشاعر في الموضوع.
وأنا كاستشاري لا أجد حرجاً في عرض نفسي على زميل آخر وقد حدث معي بعض التعب والإرهاق في العمل وقررت إجراء بعض الفحوص لدى طبيب زميل، وبالفعل ظهر لدي ضغط وسكر ولو قمت أنا بهذه الفحوص وتدخل الجانب العاطفي ربما أوهمت نفسي بأنني سليم ولا أعاني من شيء ولتفاقمت حالتي".
بناء على ما تقدم ذكره، نصح مهند بمراجعة طبيب الأسرة الخاص به وطلب الاستشارة لعلاج مشكلة ارتفاع ضغط الدم بالطريقة السليمة. وأيضا طلب تحويله إلى المعالج النفسي / السلوكي للتخلص من القلق والتوتر حتى يتمكن العمل ومساعدة مرضى السرطان بشكل أفضل.
ختاماً, أذكر نفسي وزملائي العاملين في هذه المهن الإنسانية ان أجسادنا أمانة من الله لذا يجب المحافظة عليها. قد نغفل عن الأمانة أحيانا ولكن لا ينبغي تضييعها. حفظ الله الجميع من كل مكروه .