مازال ذلك اليوم عالقًا بذاكرتي ، إنه أول يوم عمل لي بالشركة التي أعمل بها الآن .
كنتُ سعيدًا جدا عندما أجريت المقابلة الشخصية مع بعض المسؤولين ؛ فقد أُعجب الجميع بمهاراتي وأحصوا نقاط قوّتي.
أخذني أحدهم في جولة سريعة لأرى بعض مرافق الشركة ، وأثناء جولتنا السريعة استوقفني أحدهم ودعاني للانضمام إليهم ، كانت رفقة جميلة ، يمزحون ويتناولون بعض الشطائر .
لقد شجعني كثيرا على الانخراط في الحديث معهم ، جلستُ فشعرتُ بشيء من الحميمية تجاههم ، عرفتُ أثناء محاورتي معهم أن هذا الوقت يُعدُّ فسحة لا تتجاوز عشر دقائق ، بعدها يعود الجميع للعمل مجددا .
عرفوا أنني المهندس الجديد الذي سوف يبدأ العمل معهم قريبا ؛ فاحتفوا بي وخاصةً ذلك الشخص الذي دعاني للجلوس وقدّم لي قدحًا من القهوة ، كان حديثه رائعا ، ينمّ عن ثقافة عمليّة ، وخبرة حياتية رأيتها بادية عليه من خلال خصلاته البيضاء المتماوجة كضوء القمر في شعره الفاحم ، تشعُّ عيناه حبّا لمن حوله وقد ترجم ذلك خدمته لزملائه بسعادة ، وقيامه بضيافتهم بين الحين والآخر .
بعد انتهاء زمن الاستراحة انصرف الجميعُ كلّ لعمله ، وأثناء مغادرتي سألتهم عن مكتب المدير لأنه طلب رؤيتي ، فأرشدني أحدهم إليه ، اتجهتُ صوب وجهتي وطرقتُ الباب وعندما سلّم عليّ المدير واحتفى بي عرفتُه حق المعرفة ، إنه الشخص ذاته الذي دعاني للجلوس معهم ، هو بعينه الذي قدّم لي قدح القهوة ، وأثنيتُ على محياه اللطيف وكلماته المهذبة مما أثار اهتمامي لمعرفة من يكون .
هذا هو القائد الرئيس الذي تستطيع أن تضع لسلوكه مع مرؤوسيه أجمل عناوين الإنسانية ، تصفه من خلال ذلك ببضع كلمات فتقول : القائد الإنسان .
بحق كان لوحة فنيّة تطالعك ألوانها بأجمل سحرٍ خلّاب ، جمع بين العطاء الإنساني والتفوق في الأداء الوظيفي.
ومع مرور الوقت نشأت بيني وبينه علاقة من الودّ والقبول ، عرفتُه عن كثب ، وصرتُ أخوض في غمار حروبه الوظيفية التي خلت من أيّ أسلحة مُدمرة ، بل هي على النقيض من الحروب الحقيقية ، ماتلبث أن تنشر مناخا مهنيّا متميزا ، يجمع بين الدينامكية
العاصفة وطمَأْنِينَة النفس واتزانها في أداء العمل.
كان نائبًا عن كلّ موظف يغيب عن كرسي عمله ، لذلك تربّع في القمّة وشقّ له طريقا في القلوب .
بكلّ تأكيد كانت أهدافه بعيدة المدى ، وكانت مشاعره تنبض بالمسؤولية إزاء الجميع ؛ لذلك تراه يضع يديه في كل شيء ، ويلوثهما بغبار العمل ليتذوق لذّة الثمار بعد الغِراس المُضْني .
يبدو لي أنّ علاقات العمل تبدو معقدة نوعا ما إلّا إذا احتضنها قائد حكيم مثل هذا القائد لا يمكن أن نصف إدارته فنقول : ( نحاول ترميم أخطاء الرئيس )
أو : ( لو لم يكن هذا مديرنا لآلت الأمور إلى خير )
لقد دأب مديري القائد في جميع توجهاته على خَلْق بيئة مُحفّزة للعمل ينمو خلالها المردود الإنتاجي سريعًا ، يفرز مشاعر العدالة الحقيقية ليفوح أريجها بين الجميع دون تهميش لأحد ، يزن الجميع بميزان مُنصف لايشوبه تفريق مآله تمزيق للوحدة المهنية.
ثمّة شعور غمرني هذه اللحظة لابد أن أقوله لكم : لقد اختفى هذا النموذج القائد وبرزت إدارات همّها الوحيد مصلحتها وما يعود عليها من نفع شخصي ، يهمّش مصلحة العامة لكنني مؤمن بالمثل الدارج ( لو خُليت لخُربت) لذلك على الرغم من الفساد الضارب في أعماق المجتمعات العملية ، لكن يُفترض وجود بصيص أمل يُنهي ثبات الفساد ، ويخرج من دائرته المغلقة .
تطورت علاقتي بمديري ( القائد ) في العمل ، وجمعتنا صداقة قويّة ، وأكبرتُ في شخصه الإنسان الحقيقي الذي يحلق في سماء الإنسانية ، ليس فقط من أجل إسعاد الجميع بإنتاجية ذات مردود عالٍ في العمل وإنما في أسرته وبين أحضان مجتمعه أيضًا.
وآخر وصية سمعتها منه قبل أن يوارى الثرى
كانت تترجم سيرته ، حيث أوصاني بالتفاني في العمل فقال :
يشعرُ البعضُ بألم عندما يهمُّ بانتزاع ورقة من الروزنامة ، وقد مضى يومه دون أن ينجز ما خطط له ، فكيف ينتهي زمن إقامته في الدنيا دون أن يرضي ربه ، ويترك بصمة جميلة تزور أحبابه بين الحين والآخر عند اشتعال الذكريات.
نقتل الأيام بقتل الساعات ونقتل ساعات أعمارنا بشرف العمل أما التّسويف فهو سُوس ينخرُ البدن .