من منا لم يسمع بعقلية العالم البرت اينشتاين (1879- 1955) التي أهلته لوضع أشهر النظريات العلمية في الفيزياء النظرية وما أحدثته بعدها من حراك علمي واكتشافات غيرت وجه العلوم الحديثة كالنظرية النسبية العامة والخاصة وتفسير ظواهر مهمة مثل الكهروضوئية والطاقة والزمكان وحركة الاجسام والجزيئات وسرعة الضوء وحتى بعد وفاته ومرور 100 عام على إحدى فرضياته تم اثباتها وذلك برصد الأمواج الثقالية (امواج الجاذبية) في الوقت الحاضر .. حتى صار اسمه رمزا للذكاء ومرادفا للعبقرية.
بعد وفاته في مستشفى برينستون في ولاية نيوجرسي قام الدكتور توماس هرفي بتشريح دماغ اينشتاين وتقسيمه إلى (٢٤٠) جزء وحفظها من التلف ولاحقا قام بتوزيع بعض الأجزاء لباحثين آخرين بهدف إجراء مزيد من المسوحات الطبية والدراسات لاكتشاف سر العبقرية الكامنة فيه تشريحيا .
ومن ذلك الوقت برزت في الأوساط العلمية العديد من الفرضيات والدراسات لفك لغز تميز دماغ اينشتاين وسماته المكتشفة فمنهم جعل السبب في زيادة عدد الخلايا الدبقية والنجمية ودراسة أخرى خلصت الى ان وزن دماغ اينشتاين اقل من غيره ودراسة ثالثة اوعزت السر الى شكل القشرة الدماغية وتعرجاتها المختلفة مقارنة بالأخرين ورابعة ركزت على تلافيف اكثر ونتوء في الفص الجبهي الامامي .. الا ان كل هذه الدراسات باءت بالفشل وشكك البعض في نتائجها الشكلية التي لم تحسم اللغز وتجيب عن التساؤل .
اذن اين يكمن الحل ؟ وهل من جواب علمي مقنع ؟
نقول نعم يوجد جواب علمي قديم بقدم البشرية نفسها واستقراء حديث في آن واحد ربما لم يتطرق له أصحاب العلم المادي التجريبي بل ودائما يتجنبونه لان الايمان والتصديق به مخالف للنهج الذي يسيرون عليه ولكن في اعماقهم متسق ومنسجم مع فطرتهم السليمة .
الجواب الشافي بحسب معطيات بحثنا هذا نذكره باختصار:
الانسان كائن ثلاثي مركب من الجسد والروح والنفس وفصلنا في وظائفهم والتناغم الحاصل بينهم وذكرنا على ان النفس تتكون من العقل والذاكرة وانطباقها على الجسد تماما ومركزها في الرأس والعقل مركزه منطبق على الدماغ يديره بإرادته ونواياه الصادرة اليه. فعندما يموت الانسان تتفكك تركيبته الثلاثية فالجسد يعود الى اصله الترابي واما النفس والروح يرحلان الى مستوى ذبذبي آخر إيابا للموطن الذي جاؤوا منه حيث الانتماء للمستوى الاصلي بعد رحلة أرضية اختبارية اكتسبت فيها النفس الكثير من الاعمال والخبرات الجيدة والسيئة محتفظة بكامل وعيها المتحصل بغية تسليط الضوء عليه مرة أخرى في يوم يعرف بيوم الحساب .
اذن عقل اينشتاين المميز الذي استنتج النظريات العبقرية وفسر بعض الظواهر العلمية بعد جهد كبير من العمليات التفكيرية والحسابية فقد رحل مع نفسه (لزمكان) يسمى عالم البرزخ بدأ منذ لحظة نهاية تحالف النفس مع الجسد لوقتنا الحاضر وينتهي يوم القيامة .
ولو كان ممكنا الاطلاع على أحوال اينشتاين في البرزخ ان لم يكن من أصحاب (النفوس المسبتة) لأخبرنا بالحقائق التي اطلع عليها بعد رحيله وهامشية ما كرس جل حياته من اجله مقارنة بما رأى من حقائق وعوالم غيبية تفتحت نفسه وعقله عليها { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } (سورة ق 22) هذا أولا .
ثانيا كأن لسان حال اينشتاين يقول للدكتور توماس هرفي: لقد ارتكبت خطأ عندما سرقت دماغي لظنك ان عقلي المفكر المتفوق موجود فيه بل ان الحقيقة اعمق مما تظن ويظن غيرك فعقلي وذاكرتي ووعيي بكامله معي الان واما ما عندكم من ادمغة واجساد فهي مجرد مكونات بيولوجية وخلايا عصبية لإدارة الجسد وحركته ثم تتلف بعد الموت ولا يوجد فيها اثرا او دليلا للذكاء والتفكير فقد حللتم الادمغة والاجساد فكلها متشابهة من حيث الشكل والوظيفة وهكذا ستكتشف الحقيقة انت وغيرك من البشر بعد الموت والانتقال من عالمكم الدنيوي المادي لعالم النفوس المجردة فقد صدقت الكتب السماوية واخبار الأنبياء والرسل { إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } (سورة الدخان 50) .
ما نريد التأكيد عليه من ربط شخصية اينشتاين بالنفس على ان الدماغ شيء والعقل شيء آخر فالدماغ عضو ينتمي لمادة الجسد ومن خامته يقوم بالوظائف التنظيمية والحركية للجسد واما العقل فهو طاقة نفسية مجردة من المادة يقوم بالعمليات التفكيرية ثم يصدّر قراراته للدماغ والدماغ بدوره يصدّرها الجسد ولا دخل للدماغ واعصابه بالتفكير والذكاء لا من قريب ولا من بعيد سوى الاشتراك في الموضع نفسه.
فلو قارنا حجم دماغ الانسان بالحيوان بعضها اكبر حجما من دماغ الانسان واكثر تلفيفا وبعضها اقل واصغر إلا ان وعي الانسان وتطوره اكبر بكثير من الحيوانات والطيور ذات الوعي المحدود الثابت مما يدلل على ان اختلاف حجم الدماغ ليس له علاقة بالتفكير لا يدل على الافضلية والا لأصبح دماغ الفيل او الحوت يفوق قدرات الانسان تفكرا وانما حجم الدماغ في كل الكائنات يتناسب مع حجم الجسد والوظائف المناطة اليه وادارته اما عمليات التفكير والوعي فتنتمي لمكون آخر .
وفي الحقيقة نجد اينشتاين نفسه طالما أجاب عن هكذا أسئلة بطرق غير مباشرة بقوله (انه يعتمد على التفكير الطويل والتأمل في طبيعة الاشياء وحب الاستطلاع والتساؤل الطفولي واطلاق الخيال لخلق الصور والربط بينها) نلاحظ كل هذه الملكات والقدرات هي عمليات عقلية مثبتة علميا وليست عضوية .
يذكر عن الفيلسوف سقراط حينما أرادوا إعدامه بالسم بعد محاكمته الظالمة عندما سأله تلامذته الحزينين عليه اين تريد دفن جسدك بعد موتك؟ أجابهم: (افرحوا وقولوا انكم توارون في التراب جسدي فقط) وفي نقل آخر قال (ان وجدتموني فادفنوني أينما تريدون) في إشارة واضحة الى ان موت الجسد لا يعني نهاية حياة الانسان (الأنا، الوعي) واراد تأكيد ايمانه بالله وبحياة النفس وخلود قواها العقلية بعد الموت وانما تنتقل من عالم الى عالم آخر.
فهل عرفنا الان اين عقلي اينشتاين وسقراط في حياتهما وبعد مماتهما ؟