تعترينا بين الحين والآخر محاولة التّوقّف عن التفكير في أيّ شيء ، نصمت عن الحديث ، نترك الأقلام جانبًا ، نخاطب العقل بهدوء دون أن نُقطّب الجبين أو تتسارع الأنفاس .
لابد أن العلاقة الوطيدة بينك وبين عقلك جعلته يفهم ضرورة التوقف عند حدّ معين من العمل ، وأخذ قسط من الراحة للاسترخاء ، وبعد رحلة الاستجمام تلك ، سوف تتضح لك بعض الصور الخاطئة في حياتك ، تعامل معها بحكمة ورويّة وانطلق ببداية مُشرقة ، فكلّما تلبدت أيامك بسواد الأخطاء ، سوف يصقلك الخطأ ، شرط ألا يتكرر .
إنّ حتميّة الخطأ واردة لامحالة ، لكن قوتك سوف تقذفه بعيدًا ، لاتجعله ماثلًا أمامك فهو إعاقة فكرية ، اتركه جانبا ولاتكرره ، وإياك من اللدغة الثانية ، فلا يوجد يوم أكثر أهمية من يومك هذا ، تواصل مع الحاضر ، اقطع عهدًا معه بأنك سوف تُشعر نفسك بالسعادة فقط دون أن تذكر ذنوبا مضت أو أخطاء ولّت مادمت تعيش لذّة الغفران.
إنني أعلم بوجود منحنيات مختلفة فارقة بين عالمي وعالمك وعالم الآخرين ، عوالمنا ليست متشابهة بالقدر الذي يراه معظم الناس .
في عالمك البسيط قد يتعجب أولادك ومن حولك من أنك تشكو من ضيقِ الوقت ، في حين يشعر غيرك بوقت فراغ كبير لايمكن سدّه ؛ وقد يكون سبب ذلك ، لأنّك عرفتَ طريق القراءة ، حينئذ فقط كنت بحاجة ليومٍ يحوي أكثر من أربع وعشرين ساعة ، فنفسك مثل الأرض بحاجة لنور القراءة والمعرفة لتزهر بمحصولِ وفير .
من جهة مُشابهة كان توقيتك مناسبا للتوقف عند أبواب جهابذة العقول ، لقد قمت بتوثيق علاقتك بالناس ، لا بأس أن خسرتَ البعض وكسبت أشخاصا كانوا بمذاق القهوة اللذيذة في يوم شديد البرودة ، وكانوا خير عوضٍ لِمن فقدت في سالف الأزمان .
لديك الآن ثلّة من الصالحين كما وصفتهم ( إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة )
اللهم اجعلنا منهم ، نستبق ولُوج القلوب بحبّ ، نمرُّ مرور الأخيار ، ثم نغادر بسلام.
وفي الوقت نفسه تذكرتَ بأنك لست محور الكون ويمكن الاستغناء عنك حتى من أقرب الناس لديك ، فقلتَ بإيجابية وسعة صدر : لابأس ، غدا سوف يعودون !
لقد أصبحت تشعر بسعادة عارمة بمعرفة شخصيات جديدة لها ثقلها الاجتماعي ، لكن مازال الجانب الإنساني طاغيًا على أعماقك الزاهية بالنور ، لأنك عشقت مجالسة الفقراء ؛ فتخلّقت بأخلاق الأنبياء واقتبست طرفا من سيرتهم دون قصد .
بلاشك صادفت أجناسًا ذات طبقات عقلية مختلفة فتعلمتَ شيئين بغاية الأهمية :
الأول :
أنّ الحياة تسلب الآخرين محاسنا لصيقة بهم وتهديها غيرهم دون جِهد يُبذل ومعاناة تُذكر .
كما يقول الإمام علي عليه السلام :
(إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أحَد أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ)
الثاني :
أن البشر في تغيير مستمر ، وهو أمرٌ مشابه لتغيير فصول السنة !
لذلك صقلتكَ مواقف عديدة ، ودفعتَ الثمن مُضاعفًا ولكن ذلك الثمن لن تعتبره باهظًا ؛ لأنك عرفتَ أن الخسران المبين هو خسران العائلة ، وتيقّنتَ بوجود بطل في أعماقك يسعى جاهدا للخروج منتصرًا .
لقد ظهرتْ في الحياة المظاهر المادية الصرفة وانتشر صوتها في الأرجاء ، فنبذتها خلفك خوفًا على ذلك الإنسان بداخلك لأن من خلقه جعله صاحب فطرة سويّة ولن يأنس إلّا بالقرب من خالقه .
لذلك كان أجمل وقت هو وقت تقضيه في ضيافة الله ، وأجمل علاقة هي علاقتك به تعالى ، علاقة عجيبة تخلو من الملل والظن والألم .
إنها علاقة سامية جعلتَ قلبك جنّة خضراء سوف تحصد ثمارها عند لقائه تعالى .
إنّ واقع الآخرة قد يخالف مايحدث في الدنيا ؛ فالآخرة محطة ينتهي عندها الألم والعمل ، لاجهد ولاتعب بل راحة المؤمن وسكونه فيها ، أما الدنيا فلاتكف عن إطلاق الروايات الشيطانية ، والصراعات المواكبة للأحداث الإنسانية.