نشأ في مجتمع مليء بالتجاذبات الدينية والعقدية والفكرية والسياسية ، في قبيلة من أشرف وأعرق القبائل العربية ( قريش ) حيث الريادة والسيادة لبني هاشم في مواجهة الكفار والمشركين ، الذين غرقوا في بحور جمع المال وعبادة الأوثان والحروب الطاحنة والسلب والنهب .
مجتمع تسربل بالعادات الجاهلية المقيتة ، فلا مجال عندهم للسكينة والهدوء ، إذ يطحن بعضهم البعض ، فلا يأمن الأخ على أخيه ولا الأب على ابنه ولا الأم على ابنتها ، حيث تعيش الأم حالة رعب وقلق وخوف عندما تبشر بأنثى ، لتلقي عليها نظرة الوداع بعد ولادتها ، وتكون النظرة الأخيرة !
كانوا يعبدون إلهًا يروه – حسب زعمهم – أولى من عبادة إله في السماء ! فيتخذ الواحد منهم صنماً ينافس الآخرين في شكله وحجمه ، والواقع أن حجم هذا الصنم ربما يكون أكبر من حجم عقل هذا الرجل ، ومع علمه أن هذا الحجر لن يدفع عنه الشر ولن يجلب له المنفعة ، يصرُّ بجهله على عبادته ، وهذا ما ولّد لديهم عقمًا في الفكر وضعفًا في المعتقد ، ورفضًا لكل بارقة أمل في سبيل تطهيرهم وإصلاحهم وعلاج طباعهم السيئة .
عاش نبي الرحمة في هذا المجتمع ، يتيمًا بعد فقد والده ، وبعد أن فارقت أمه الحياة ؛ إذ عاش في كنفها سنوات قليلة ، لم يرتوِ كلاً منهما من الآخر بمقدار الحب الذي يكون بين الأم وطفلها ، حيث معاناة الولادة ومرض أمه ، وابتعاد الوليد الطاهر عنها ، وإخفائه قسرًا عن أعين المشركين والمنافقين ، مما ساهم في تعاظم هذا اليتم ومرارته وقسوته على حياة نبينا العظيم .
ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل ، وفيه حدثت تلك الأحداث العظيمة ، وهي رسالة لهذا الوليد بأن أمامه الكثير من العقبات التي عليه أن يتخطاها ، ولا شك أنه وحي يوحى ، وُلد نبيّا في رحم أمه ، طاهرًا مطهرًا من كل رجس ودنس ، وهو قادر على أن يكون أهلًا لحمل الرسالة والاضطلاع بمسؤولية الأمة وإخراجها من الظلمات إلى النور .
نشأ وكبر وترعرع في ظل هذه الظروف القاهرة العصيبة ، تحت حماية جده عبدالمطلب عليه السلام ( شيبة الحمد ) ، والذي كان له الدرع الحصين ، والأب الحنون الذي آمن بصدق نبوته وعلو مكانته ، فنال ما نال من الرعاية والاهتمام ، وعامله معاملة خاصة ، وأصى أبناءه بحمايته ورعايته .
وبعد رحيل جده السيد العظيم ، تولى عمه أبو طالب رعايته بوصية من أبيه ، حيث رأى في أبي طالب الحب العميق الذي يحمله تجاه ابن أخيه ، وقام أبو طالب بواجب الرعاية والحب والعطف تجاه حبيبه " محمد " وكان يخصّه بالطعام ، فإذا أراد أن يغذي عياله قال : " كما أنتم حتى يحضر ابني " فيأتي رسول الله ويأكل معهم .
وكانت السيدة فاطمة بنت أسد هي الأم التي تناولت هذا الوليد بالحب والعطف والتربية ، تعوضه فقد أمه وتفيض عليه من بركاتها وإيمانها ، وبادلها النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الحب ، وحفظ لها هذا الصنيع ، وبرّ بها في حياتها وبعد مماتها وحزن عليها حزناً شديدًا .
شرع النبي الأعظم في نشر تعاليم الدين الجديد ، والرسالة السماوية ، وكان أبو طالب يقف بجواره ويحامي عنه ويرد كيد المشركين عن حياض النبوة ، فقد كانوا يضمرون لمحمد العداء والبغض لأنه يسفّه أحلامهم ويسبّ آلهتهم - كما يزعمون - ، لكن نبينا مضى في طريقه ونشر قيم الدين في هذا المجتمع ، وصدع برسالته رغم ما وجد من عقبات وحصار ، إلا أنه استمر في دعوته وبسط كفه الكريمة ليؤسس لدين يُدين به ربع سكان العالم ، يقوم على التسامح والأخلاق والقيم النبيلة .
كانت ولادة هذا النبي العظيم بمثابة الرحمة التي نزلت على الأرض من رحم السماء ، فهو الرحمة المهداة ، إذ يقول صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه : " أنا رحمة مُهداة " (1) .
وهو هدية الله إلى أهل الأرض والسماء ، يقول تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (2) .
شملت رحمته كل العوالم ، سطع نوره لأهل السماء قبل أهل الأرض ، كانت مقدمة ولادته المباركة مليئة بالإبهار ، وحياته حافلة بالكرامات والمعجزات ، يتقلب في أصلاب الطهارة ، طاهرًا كاملًا منزهًا لا تشوبه العيوب .
يقول الشاعر حسان بن ثابت :
وأجملُ منك لم ترَ قطُّ عيني * وأفضلُ منك لم تلدِ النساءُ
خُـلقتَ مُـبرءً من كـل عـيبٍ * كأنــكَ قد خُلقتَ كما تشاءُ
حفظ الله هذا الدين منذ بزوغ شمس الرسالة ؛ ببركة هذا النبي العظيم ، فهو الدين الخالد ، وسيبقى ما بقي الدهر ، حيث لا زالت نسائم ألطافه المباركة تغمر العالم ، ومآذن الذكر تصدح وتهتف باسمه في كل أرجاء المعمورة .
المصادر :
- (1) كنز العمال ، 31995
- (2) سورة الأنبياء ، 107