ربما يتفق على هذه المقولة أو يختلف الكثير من المهتمين باللغة وفنون الأدب ، فهي من المقولات التي درجت على ألسن العرب قديمًا وحديثًا ، وقصدوا منها أنه يجوز للشاعر مخالفة بعض قواعد اللغة كضرورة اختص بها الشعر عن النثر ، إذ يستعين بها الشاعر في التغلب على اختلال الوزن الشعري ، وهي كثيرة ليس هدفي الآن التركيز عليها .
ما يهمني هو ما وراء هذه المقولة ، فقد يتبادر إلى الأذهان أننا في معرِض حكم فقهي ، ولكننا سنبسطها ولن ندخل في الأمور الشرعية ، لأن حديثنا في الأدب بشكل خاص .
الشعراء قديمًا كانوا يمثلون الصوت المسموع كوسيلة إعلامية مؤثرة ، فبلسان شاعر تقوم حرب ويخمدها آخر ، وينشب خلاف بين قبيلتين يتسبب فيه شاعر ويصلحه شاعر آخر ، فما يمتلكه من لغة ومنطق وفصاحة وبلاغة ومعرفة بفنون الحديث ، جعله يتصدر المشهد ، ويكون سيد الموقف .
ولا زال حتى في عصرنا هذا ، صوت الشعر من العوامل المؤثرة في كثير من القضايا والمشاهد الحية ، فلغة الشاعر ومقدرته على استخدام الأساليب البلاغية ، تمكنه من قول ما يريد ، ويصعب على الكثير استنطاق مقصوده ، أو قراءة ما يصبو إليه ، إذ يستخدم التصريح تارة والرمزية تارة أخرى ، حسب ما يقتضيه السياق .
سأنظر إلى هذه المقولة من زاوية أخرى ، فبمجرد أن يسمع شخص إلى شاعر ما ، يتغزل في حبيبته أو صديقه أو في مدينة أو بحر أو نهر أو قمر ، اتهمه بأن حياته مقتصرة على الحب والغزل ! وما إن يسمع لشاعر آخر يشكو لوعة الفقد ويتألم ويتوجع ، أبرق لمن حوله بأن هذا الشاعر يعيش حالة اكتئاب وربما يكون مريضًا نفسيًّا !
هذه الحالة تمر على أغلب الشعراء وهذه المواقف يتعرض لها الكثير منهم ، والله سبحانه هو أعلم بالنوايا ، فليس كل من يتحدث عن الحب يعيشه ، وليس كل من يتغزل بامرأة يعشق كل نساء الكون ..! وليس كل من يمدحُ شخصًا يريد المال !
الموازين تختلف والمواقف تتغير وتتبدل حسب اختلاف وتنوع الأمزجة والحالة النفسية للشاعر ، فهو في النهاية كبقية البشر ، يحزن ويفرح ويصاب بالألم ويعيش قصة حب ، أو قصة وداع ، أو يطالب بحق ، أو يكون الشعر مصدر رزقه وكسبه .
الشاعر يكتب بلسان غيره .. نعم هذا واقع تابعته من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ، فما إن يغرد الشاعر بأبيات في الحب إلا وترى المتابعين يتسابقون لوضع شارة الإعجاب بما كتب ، ربما يكون بدافع الإعجاب الذي يعقب مرحلة الفهم والوعي بالمكتوب ، وربما يكون الإعجاب من حالة يعيشها هذا المتابع ، حيث يرى أن هذا الشاعر يمثله ويصف حالته !.
إذاً ليس بالضرورة أن يتحدث الشاعر عن نفسه ويصف واقعًا يعيشه ، فببراعته وخياله ، يشارك الآخرين لوعاتهم وأحزانهم ، ويمد لهم يد العون لتخفيف أوجاعهم ، فكلماته تمثل البلسم الشافي ، الذي يخرج الناس من عارض نفسي يمرون به إلى ساحة الانطلاق بخيالهم نحو ما هو أجمل .
يقول الشاعر عبدالعزيز الزنيدي (1) في هذا السياق وقد قالها من باب الملاطفة بين أصحابه :
يــريد الأحــــبة تقــنينَ نبـضي * وتلوينَ حـــرفي وضـبطِ النـغـمْ
فمِن قــائلٍ دعْ كـــلام الـــغـرامِ * وغـــرّد لنا من عــــميق الحكمْ
إلى قائـــــلٍ دعْ حــديث العقولِ * وجســــّــدْ شعور الـــهنا والألمْ
وما الشعرُ إلا انـسكاب الشعورِ * إذا ما استهـــلَّ ، أســالَ القلم !
سـواء رســـمناهُ ضــوءً ووردًا * وإلا نـــزفـــــناهُ دمعًــــا ودمْ !
إذاً من هذه الأبيات الجميلة ، يتضح لنا أن نبض الشاعر يصعب تقنينه ، فهو بين مد وجزر ، وبين صعود وهبوط ، وبين ركود وخفقان ، وآراء الناس وميولهم واتجاهاتهم تختلف من شخص لآخر ، فمن مُبحرٍ متعمق في اللغة وفنون الشعر يميل إلى الاتجاه الرومانسي ، إلى ملتزم يرى بأن الشعر يجب أن يكون مقننًا بضوابط ! وبالقول الثاني يخرجُ الشعر عن أصله ويسلب الشعور الذي يتكئ عليه الشاعر في رسم معالم قصيدته ، والخيال الذي يطوف به العوالم والأمكنة ، ويطوع له الزمان ، ويبث الحياة في الجمادات وتغني له الأشجار والمحيطات ، ويبكي معه القمر وتسهر معه النجوم ، هذا هو عالم الشعر ، لا ينبغي أن نؤطر الشاعر بقالب أو نضعه في دائرة محددة ، لأنه يميل إلى الانطلاق في غير مكان .
يجوز للشاعر أن يكتب في أي اتجاه وبأي قلم ، يجوز له أن يتغزل ويمدح ويرثي ، متى شاء وبأي طريقة يراها تناسب لوحته ، وهذا لا يعني أنني أحثه للخروج على الضوابط الشرعية أو القيم والأعراف النبيلة ، فالمرء رهين بنفسه ، وأتحدث هنا من مربع التكليف كموهبة ربما تكون فريدة ، والشاعر خاضع للتقييم ويؤخذ من شعره ما يؤخذ ، ويرد ما يرد وبالتأكيد فهو ليس بمعصوم .
في النهاية ليس كل ما ينقله الكاتب أو الشاعر ، يتجسد في حالته ، فربما يتقمص دور غيره للوصول إلى هدف معين ، فاقرؤوا الشعر بغرض الاستمتاع واسمعوه بأذن واعية وتأملوه بأفكار متعددة ولا تحصروا معانيه في زاوية ضيقة ، فكما يقال : المعنى في قلب الشاعر ، ومهما حاولنا أن نشرّح القصيدة ونفسر أبياتها فيستحيل أن نصل إلى ما يقصده الشاعر بالتمام ، وجمال الشعر في تعدد تأويلاته ، إذ تجد القصيدة الواحدة ، يتناوب النقاد على دراستها دراسة نقدية مستفيضة ، بقراءات ومذاهب مختلفة .
إضاءات :
- نزلت سورة كاملة في القرآن باسم : الشعراء ، ولم يأت ذكر الشعراء إلا في الأربع آيات الأخيرة من السورة .
- لا تأخذ بالآية رقم 224 وتترك الآية رقم 227 من السورة نفسها .
المصادر :
- (1) عبدالعزيز الزنيدي ، شاعر سعودي معروف .
التعليقات 2
2 pings
علي القطان
2020-09-17 في 8:21 ص[3] رابط التعليق
وفقك الله أستاذي
دائما تطل علينا بكل ماهو جميل
بدر عبدالله السالم
2020-09-17 في 12:59 م[3] رابط التعليق
إطلالتك هي الجميلة
سعدتُ بتواجدك أخي العزيز .