ألقت واقعة الطف بظلال أشجانها على قلوب الحيارى ، وألهبت مشاعر المستضعفين ، ونكأت جراحًا تتجدد كل عام ، وأمطرت دموع العاشقين السابحين في فرات الحسين ، يبكون مصيبته الراتبة ، ويلطمون صدورهم ، حزنًا على الإمام الغريب وذريته وأصحابه ، الذين نسجوا أرض كربلاء بخيوط أجسادهم ، ولم تسقهم الماء ، فسقوها بفيض دمائهم .
تتجدد حادثة كربلاء محملة بوهج من المآسي ، وشريط من الذكريات الأليمة ، التي تقشعر لها الأرواح ، كلما مرت في ذاكرة الموالين ، إذ يبدو العقل حائرًا تتلبّسه الدهشة والذهول ، أمام تلك المشاهد المروعة ، فقد طالت نيران الأعداء كل شجر وبشر ، فلم تبقَ جريمة إلا وأقدموا على ارتكابها ؛ تشفيًا لأحقادهم وما تكن صدورهم من البغض والحنق تجاه آل الرسول عليهم السلام .
فمن قولهم : اقتلوا الحسين ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة ، في أعقاب فريضة الإسلام التي هم منها براء ، إلى كتبهم التي أرسلوها وتخبئ في باطنها الخديعة والعداء ، وصولًا إلى الجعجعة بالحسين ونسائه وأصحابه وأطفاله ، ودخوله إلى ساحة المصرع والمصاب ، وإقدامهم على تجفيف ينابيع الماء يوم السابع من المحرم ، وقطعه عن الأطفال والنساء والرجال ، وقيامهم بحصار مخيمات الحسين الذي استمر لثلاثة أيام ، وقتل أصحابه ظهيرة يوم العاشر ، والقضاء على أولاده وأطفاله وإخوته ، يتخلل هذه المشاهد صورة كل مصرع لأهله ، حيث بشاعة مقتلهم لشبيه الرسول ، وحرارة استشهاد نجل أخيه القاسم ابن الحسن الذي استأمنه عليه ، وفظاعة رحيل قمر العشيرة وانحناء ظهر الحسين ، ساحة تلتهب بالوجع وحرارة الفقد ، قمر يرحل وشمس تقترب من الكسوف ، حيث احمرار السماء حينما أخمد عدو الله أنفاس الطفل الرضيع بين يدي إمام الفداء ، وزلزل بهذا الفعل الشنيع السماوات والأرضين ، إلى أن كسفت الشمس في اليوم الدامي بمنظر يفزع القلب ، حيث اعتدى الشمر على ريحانة الرسول وسبطه ، وجثى على صدره واحتز نحره الشريف ، وعلق رأسه على الرماح ، وزينب المثكولة بأخويها وعيالها ، تحاول رد هذه الجريمة عن حبيبها الحسين ، فيقوم الشمر بضربها ، وهي تصرخ بصوت يملأ الخافقين – واحسيناه - هكذا يعيش الغيور هذا التسلسل الأليم ، وهذه المحطات التي تفطر الحجر من هولها وبشاعة فصولها .
إن ما قدمه الحسين عليه السلام من تضحيات بالأرواح والأجساد ، لم يكن طلبًا للمنصب أو الثروة أو المكانة ، فهو ابن علي المرتضى وحبيب الزهراء ، ويكفيه هذا الانتماء وهذا الفخر وهذا النسب ، كان طالبًا للإصلاح ، وجاء مطهرًا للأمة من دنس الموبقات ، ومكملًا لخط النبوة والإمامة ، غير طامع في جاه أو ثروة أو سلطان .
نجى من تلك الواقعة ذاك العليل ، الذي قام من فراش علته ، حاملًا سيفه ، متكئًا على عصاه ، حينما سمع أباه الحسين يصرخ : ألا من ناصر ينصرنا ؟
الأذن العاشقة لنداء السماء ، تسمع كل ما يذكرها بالله ، ومولانا عليل كربلاء ، كان في بكاء دائم لحرمانه من الوقوف بين يدي أبيه الغريب ، يقاسي لوعة العلة وهذا الحرمان ، ينظر إلى كل هذه المآسي ، ويرمق بطرفه إلى تلكم الأشلاء التي توزعت بين الخيام وأرض المعركة ، يشاهد مشاهد الوداع ، بين الأم وابنها ، وبين الأخت وأخيها ، وهو الحائر الذي لا حول له ولا قوة ، ولكنها إرادة السماء كما نعتقد ، حتى لا تخلو الأرض من حجة ، ولا ينقطع نسل الإمامة ، وإن كان القوم بين قوسين أو أدنى من الفتك به وقتله ، ففي غير مرة أقدموا على ذلك ، بعد استشهاد أبيه الحسين عليه السلام ، حينما أحرقوا الخيام ، وهم يعلمون بأن العليل فيها ، وشاء الله أن يحفظ إمامنا السجاد عليه السلام ، ليكون شاهدًا على هذه الواقعة الأليمة .
روى إمامنا زين العابدين عليه السلام ، حادثة كربلاء بعين فاحصة وذاكرة بصيرة ، ونقلها للأجيال عبر جهوده العظيمة في حفظ هذه الثورة ، وإيمانه باستمراريتها ، لأنها تمثل حبل النجاة للأمة من الجاهلية ، وتعتبر امتدادًا للرسالة المحمدية ، وكان لزامًا عليه أن يحفظها متخذًا من مظلومية أبيه وما جرى عليه ، منهجًا مؤثرًا في الدعوة إلى الإسلام والتعريف بنبوة جده وإمامة أمير المؤمنين وأبنائه عليهم الصلاة والسلام .
فمن كربلاء إلى الكوفة إلى الشام إلى مدينة جده المصطفى ، كان يحمل إرث هذه النهضة المباركة ، وفي قيود الأسر لم تمنعه العلة من الصدع بالحق وتعريف القوم باسم الحسين ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، حيث الخطب المؤثرة المزلزلة ، التي كانت كالصواعق تنزل عليهم خوفًا من أن ما أقدموا عليه من جرم شنيع يذهب أدراج الرياح ، وهو ما حدث بالفعل ، فكلمة الله باقية وتعلو على كلمة الباطل ، ومثَّل الحسين عليه السلام المعنى الحقيقي لكلمة الله ، بتضحياته وشجاعته ونهضته الحسينية المباركة .
اتخذ الإمام السجاد عليه السلام من البكاء سلاحًا لتأصيل واقعة كربلاء في النفوس ، فما مر في طريق إلا واستحضر المواقف مع الباعة والمارة لتذكيرهم بمصيبة أبيه المظلوم ، وكان ذلك المنهج مؤثرًا وفاعلًا في إذكاء العواطف ، واستذكار ما جرى على آل البيت من مصائب ، وأردفه بالدعاء الذي عرّف من خلاله بكرامات ومقامات أهل بيت العصمة ، وتجلى ذلك في الصحيفة السجادية التي تزخر بالأدعية والابتهالات المطهرة للقلوب والنفوس .
يبقى زين العابدين مدرسة أسست للتعاليم النبوية العلوية الحسينية ، وجامعة تمثل الإرث الحقيقي لعلوم آل محمد ، نهل من معارفها القاصي والداني ، وجهوده أسهمت بشكل كبير في الحفاظ على هذا الدين ، وحفظ النهضة الحسينية بكل تجلياتها وبركاتها الأبدية .