قد تتساءلون هل هي قصة حقيقة أم خيالية من وحي الكاتب...
اسمي نور وعمري 11 سنة وسأدرس هذا العام في الصف السادس الابتدائي وأتمنى ألا تغير الدراسة "عن بعد" جمال الدراسة كما كانت أيام المدرسة وألا تتغير العادة التي سأروي لكم قصتها...
في ليلة دخول شهر محرم هذا العام، وبعد أن توالت علينا أحداث كثيرة وأيام طويلة وقصص شتى مع ضيفنا الثقيل، الذي حل علينا فجأة وبدون سابق إنذار، أعني "فيروس كورونا" وكلكم بالتأكيد تعرفونه، فما زال ضيفنا إلى اليوم، فلم يبارحنا بعد، استبشرت بقليل من الفرج وقلت في نفسي وأخيراً سنخرج إلى مآتم الحسين عليه السلام، كما اعتدنا في كل عام، ونرى الناس والعالم من جديد.
ولكم أن تتصوروا لحظية هذا الاستبشار فلم يدم طويلاً ، إذ قرأ علينا والدي بيانًا من مآتم وحسينيات "البلد" هنا في الأحساء ، شمل القواعد التي يجب علينا أن نطبقها كشروط للحضور إلى هذه المآتم ، وقد كانت كثيرة إلا أن شرط عدم حضور الأطفال أقل من 15 سنة نزل علينا أنا وإخوتي كالصاعقة ، فنظرت إلى نفسي وكنت أكبرهن عمراً ، ثم نظرت إليهم ونحن في دهشة وحزن ، ونظرنا إلى والدينا ، وقد خيم علينا جميعنا الشعور بالضيق والكدر ، لكن والدتي ابتسمت وقالت لنا : لا عليكم يا صغاري ، سوف نقيم مأتم أبي عبد الله الحسين عليه السلام هنا في البيت ؛ مواساة لأمه الزهراء وأهل بيته أجمعين .
فصُحنا جميعنا: هنا في البيت؟! فقالت: نعم هنا.. فما كان منا إلا القبول؛ إذ ليس لنا أي حيلة، فسلامتنا وسلامة الناس مسؤولية الجميع كما قال لنا والدي.
وحين جاء الليل انتظرت والدتي كثيراً بأن تقوم بعادة اعتادت على أن تقوم بها في الأعوام السابقة، تلك العادة التي ورثتها من والدتها وجدتها كما كانت تقول لي، ولكن انتظاري طال كثيراً حتى ساعة متأخرة، فقلت لنفسي: لعل والدتي نسيت ويجب أن أذكرها، فقلت لها: أماه لما لم تغطِ "الموقد" "الفرن" - كما نسميه - كعادتك في كل عام بداية شهر محرم؟
فقالت لي: أوَتظنين يا نور أني نسيت؟! أنا لم أنسَ ولكن كيف لي أن أغطي "الفرن" وكيف سأطبخ؟ ومن أين ستأكلون طعامكم اليومي؟
فقلت لها: أمي أليس هذا شهر محرم قد أقبل؟!
قالت: نعم
قلت: أليست "بركات" مأتم الحسين ستأتينا رغدًا، كما اعتدنا عليها ليلاً ونهاراً؟ وكنتِ دائماً تقولين لنا: لا داعي للطبخ، فالطعام وفيرٌ جداً، فإن طبخنا مع ما يأتي إلينا من بركات المآتم سيكون ذلك تبذيراً وإسرافاً لا يرضي الله ورسوله، وكنتِ تقومين بتغطية الفرن بالمفرش الأبيض الذي اعتدناك أن تفرشيه في بداية شهر محرم، ونكتفي بتلك "البركات"
فقالت أمي: ابتني الجميلة، تلك أيام كانت وكيف لها أن تستمر، أنسيتي يا حلوتي "كورونا"
فصُحت.. آه كورونا، نعم يا أمي لم أنسَ ولكن ما شأنه في بركات الإمام؟
قالت: بنيتي، تجنب أصحاب المآتم الطبخ في هذا العام خوفًا من أن ينتشر بأيدي الخدام والطباخين "الفيروس" من دون أن يعلموا، ولخوفهم الشديد وحرصهم على الناس اكتفوا فقط بتوزيع البركات المغلفة والجاهزة، المعدة في المطاعم الموثوقة، والتي تطبق اشتراطات الصحة والنظافة والوقاية من هذا الوباء.
فقلت: نعم يا أماه كل شيء اختلف هذا العام.
ثم أشارت لي أن آتيها بألبوم صور قد وضعته في درج مكتبها، وقالت: افتحي يا نور هذا الألبوم، فقد جمعت فيه صوراً قديمة لأيام خلت عن كيفية الطبخ والتوزيع في مآتم ومضائف الإمام الحسين عليه السلام، فقد كانت تجذبني طريقة عرضها للطعام، واكتظاظ الناس عليها، ومسارعتهم للحصول على أخذ البركة، فكنت أوثق ذلك الجمال بعدسة كامرتي، ووضعت لها صوراً من أماكن مختلفة في هذا الألبوم، انظري يا نور.
هذه بعض من صور إعداد «البركة» في السابق وقد كان يشارك فيها الكثيرون أما الآن كما قلت لك يا بنيتي بسبب هذه الظروف الصحية التي نعيشها فقط اختلفت طريقة تقديم الطعام واقتصر على الطعام الجاهز والمغلف.
نعم يا أمي جميلة هذه الصور، وجميلة الأيام التي خلت، ويا ليتها تعود من جديد.
ستعود يا بنيتي ولكن بعد أن يزيح الله عنا هذا الوباء.