يحظى موضوع الوساوس في العالمين العربي والإسلامي، باهتمام كبير من اغلب أطياف المجتمعات على مر التاريخ، فقد ألفت الكثير من المصنفات وطرحت الكثير من الآراء والنقاشات والحلول، فمنها الصحيح المستند على ركائز العلم الديني والعلم التجريبي ،ومنها ما استخدمت فيه الخرافة والشعوذة .
نحن هنا سنطرح رأينا المتواضع بهذا الصدد استنادا على الأسس والمباحث التي طرحناها مسبقا .
أولا /
التأكيد على ان مع كل انسان قرين شيطاني (ضعيف) من الجن يوسوس له بعمل الشر دون اجبار على الفعل، وتحدث هذه الوسوسة بشكل طبيعي وليس منها أي ضرر مباشر الا في حالة الاستجابة الاختيارية، وتخطي دور العقل وغلبة غرائز النفس السلبية وعدم تهذيبها وبرمجتها على المقاومة والتقوى وفعل الخير.
ثانيا /
اثبتنا سابقا على ان منطقة الصدر التي تحدث فيها الوساوس هي كيان النفس ذاتها، التي تصدر منها خيارات الانسان وقراراته ،وتقع في منطقة الرأس الداخلية وبالتحديد في العقل (القلب النفسي) وليس في القلب العضوي المعروف بمنطقة الصدر الجسدي المادي .. فاذا اقتنعنا بهذا التأصيل والطرح ،ينبغي ايقاف المفاهيم والعلاجات النفسية الموجهة (للقلب الجسدي) في الصدر وانما حصرها فيما تحويه جمجمة الرأس من صدر وناصية.
ثالثا /
تتم عملية الوساوس القهرية على مرحلتين هما :
المرحلة الأولى:
مرحلة الوساوس الاختيارية وهي طبع بشري طبيعي، تحدث عند كل انسان من حديث شيطاني خفي للنفس والوسوسة لها بعمل الشرور وارتكاب المحرمات والممنوعات؛ لإشباع غرائزها بطريقة غير نظامية، وهنا يكمن فاصل الاختبار النفسي في المقاومة والتقوى منها او الانقياد للنفس والاستجابة لوساوس وحبائل الشيطان الغير منتهية، وبطرق ملتوية ومتدرجة .
المرحلة الثانية:
مع تعوّد الانسان الإنصات للوساوس الشيطانية وعدم التعوذ منها ومقاومتها بالتقوى والتحصين والاستجابة لتنفيذها، تصبح (عادة ثم عبادة) كما وصف هذه الحالة الامام جعفر الصادق ع كما في الرواية التالية: (روى عبدالله بن سنان: ذكرت لأبي عبدالله ع رجلاً مبتلي بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل، فقال أبوعبدالله: وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقال سله الذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان) والله يصف هذه الحالة على لسان الشيطان في القرآن الكريم { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة إِبراهيم 22).
ونعتقد ايضا ان (للنفس القدرة على تشكيل دوائر نفسية ضارة) نشبهها بالدوائر الالكترونية (للمذبذبات) التي تتحكم في شدة التيار ونوعه واتجاهه وشكل الموجة وطولها وتذبذبها، بحسب الهدف من إخراجها ووظيفتها.. كذلك (الوسوسة عبارة عن دائرة نفسية ساهم الشيطان في صنعها) عندما استجاب الانسان لوسوسته فبدأ بتنفيذها تدريجيا الى ان اكتملت عناصرها فأصبحت تمارس بشكل ذاتي (اوتوماتيكي) بشكل متكرر، وكأنها ضمن الاعتقادات الراسخة واجبة التنفيذ وهذا من البلاء الذي يصنعه الانسان لنفسه بنفسه .
اذن الانسان ذاته هو المسؤول الأول عن صنع هذه الدوائر الوسواسية ،وذلك عندما يستجيب بإرادته لوسوسة الشيطان ويجعل له سلطان وقوة للتحكم في نفسه من حيث يعلم او لا يعلم .. ((ولعل بيئتنا الموبوءة بمثل هذه الاقاويل الخرافية ساهمت في توليد وانتشار الحالات الوسواسية حيث يتم التداول والتلقين بين الأجيال المتلاحقة عن قوة الوساوس الشيطانية والجن وكيف انها تسيطر على نفوس البشر وتتحكم بها مما تفتح هذه الاحاديث الجاهلية ثغرة ضعف ينفث الشيطان منها ليتمكن من أسر الانسان الجاهل المعتقد بها)) .
فلو ان الانسان اعتقد بقوة الله عليه وحفظه له واعتقد بعدم قدرة الشيطان بالمساس به وضعف حيلته { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } (سورة النساء 76) وليس له أي حول وقوة عليه وازاح هذه المعتقدات الباطلة والبالية المنتشرة بين الناس التي يروج لها الجهلاء المشعوذون المتنفعون ونبذها بقوة لما حصل له أي اذى بإذن الله.
فينبغي عدم الانجرار خلف ما يروج له في المجتمعات من اساطير شعبية، راح ضحيتها أناس جراء علاجات تقوم على الضرب والكي في مناطق الصدر الجسدي ،تبريرا لوجود الجن واخراجه من جسد المتضرر، فما هي الا خططا لاستنزاف الأموال من جيوب الجهلاء واستغلال حاجتهم للعلاج .
وللاحتراز من تكوين ونشوء دوائر الوساوس القهرية ينبغي عمل بعض الإجراءات الوقائية ومنها:
- التحصين:
على الانسان القيام بالتحصين والتدريع للنفس والعقل (القلب) بالوضوء والطهارة وبقراءة القرآن كالمعوذتين وآية الكرسي وأيضا ذكر الاذكار المعروفة من الادعية كدعاء (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) وكذلك دعاء (اللهم ادخلني في حصنك المنيع الذي تدخل فيه من تشاء) وغيرها من الادعية الكثيرة والمعوذات التي تشعر المعتقد بها بقوة التحصين والحفظ من مردة الجن والانس.
- الحالة النفسية الإيجابية:
للحالة النفسية دور فعال من حيث قوتها وضعفها فالإنسان الذي يعيش وسط أجواء (مخاوف، شكوك، احزان، مشاكل، قلق، اكتئاب...) سيكون اكثر عرضة للأمراض النفسية، ومن ضمنها الوساوس بأنواعها الشخصية والدينية والاجتماعية .
وعلى النقيض عندما يكون الانسان قد أحاط نفسه ببيئة إيجابية استطاع صناعتها بوعيه بين (سعادة، تفاؤل، ايمان، امتنان، توكل، حب، تغافل، تنمية...) ستكون حالته النفسية اكثر قوة وأمان من الغزو الوسواسي ومحصنة من الاختراقات المرسلة .
- الوعي والتنمية:
يبقى الوعي العام للفرد الحصن الحصين من اضطرابات الوساوس ،فمتى ما كان لديه المعلومات الشافية والقناعات اليقينية بكينونة النفس وطريقة عملها واتحادها مع الجسد وكيفية تأثيرهما المتبادل، سيكون بمأمن من الانسياق للوساوس وستكون ثقته بنفسه عالية .
وكذلك عندما يكون مترسخا في الوعي ان ليس للجن علاقة بالإنسان ولا يستطيع ان (يسكن جسده او يضره او يتزوجه) كما يشاع ويُعتقد جهلا فهناك فرق بين القرين الشيطاني الضعيف الموجود مع الانسان وبين عامة الجن ،فهذا الاخير له عالم خاص منفصل عن عالم الانسان ولا توجد بينهما علاقة مباشرة وهذا من فضل الله على البشر .
فينبغي اخذ الحيطة والحذر مما يروج له في الأوساط الشعبية حيث انها تساعد على انتشار الوساوس والامراض النفسية فيجب اخذ المعارف الحقيقية من اهل الاختصاص وكذلك الحث على القراءة والاطلاع لتنوير العقل وتنميته وتحصينه.
وأما بعد حدوث الحالة الوسواسية ،فرغم صعوبة التخلص منها لكن لا مستحيل مع قوة الإرادة فتتطلب الى علاج نفسي معرفي وتغيير القناعات السلبية والاطر التي أدخلت الوساوس واحلالها بالحقائق العلمية والعقيدة الصحيحة، بالإضافة للعلاج الدوائي العضوي المساعد بإشراف من المختصين وتعتمد فترة العلاج على مدى تغلغل الحالة وقوتها ومدة تسلطها على النفس وأسباب نشوئها ان كانت وراثية ام مكتسبة .