بنظرة شمولية للآراء المتناثرة في سماء الفكر الصاعد ، سوف نلاحظ الاحتدامات القائمة بين طبقة المثقفين وبين المثقف الدينيّ خاصة .
فتخبو شعلة المثقف إذا فشل في قياس المسافات بينه وبين الناس ، وتصبح الثقافة لديه كلمة يتشدق بها فقط دون أن يستشعر أثراً لمدلولها الفعلي.
وحسبما ورد في الأمثال العربية : ( كُلّ لسان بإنسان ) يتضح جمال الإنسان بقدرته المعرفية التي تجعله منسجمًا مع جميع خطوط التغيير في المجتمع ، وهذا هو شأن المثقف الذي يسابق الحدث الآني، ويواكب التطورات المعرفية .
فهل الثقافة والقدرة المعرفية للمثقف تشكلان قفزة نوعية مميزة لديه ؟
إننا قد نهتزّ لأيّ فكرة أنيقة يعرضها المثقف فتلامس وجداننا ، وننبهر بعنفوانها معجبين ، مصفقين لها ، نؤمن بقناعة تامة بمساعدة صاحبها لنا على بناء الرأي وتشكيله ، غير أن المثقف قد يطاله النقد إذا لم يُحْكم سدّ الثغرات التي يتعرض لها في اصطدامه بتيار الموروث الاجتماعي ، أو مخالفته لمنظور ديني ، لذلك لابد أن يكون له منفذاً للخروج من أيّ مناظرة ؛ لأنه تسلح معرفياً ودينياً .
يمتلك المثقف القدرة على التصدي لجميع المواقف الكارثية في الحياة ، إذا امتلك قدرًا كافيا من المعرفة ؛ لأنه يستطيع حل مشكلاته بشكل ديناميكي ، ويحمل بين يديه خبرات متعددة تسانده في الظهور بقوة ، وسْط أي عاصفة تظهر أمامه .
من زاوية أخرى ترتبط الثقافة بأسلوب الحياة وبكيفية التعامل مع الناس ، في حين ترتبط المعرفة بجملة من الحقائق والمعارف يكتسبها الإنسان من المدارس والجامعات.
لذلك كان الهدف الحقيقي من وراء الثقافة تطوير المدارك العقلية والسمو بها يوماً بعد آخر ، في سلسلة معرفية مترابطة لاتنقطع أبدًا .
وإذا كانت المعرفة عند البعض تنتهي بالتعليم الجامعي وملحقاته ، فالثقافة لاتنتهي إلا بانتهاء حياة الإنسان ؛ لأنها متشعبة في طرق متعددة واتجاهات مختلفة .
وفي مكانٍ ما ، سوف يُجرى المثقف أجمل مناورة يبتكر خلالها فنون القول ، حتى يصل لأجمل الحلول .
لقد جمع بين الحوار المهذّب والفكر الأنيق وابتعد عن الجدال العقيم ، حوارٌ تجمّدت الزهور خلاله ، حتى بات بمقدوره كسر الجليد مع الغرباء وتحويلهم إلى أقرباء . إنّه بلاشك له قدرته الخفية في مجتمع تنافسي أن يقول : ماهكذا تورد الإبل .
إن المثقف الحقيقي لابد أن تكون له بصمة يُغير بها المجتمع الذي يعيش فيه ؛ لأنه استطاع كسر صناديق كثيرة في حياته ، وسار بخطٍّ جميل مكافحا الرياح اللافحة التي كان مصدرها جميع تيارات الجهل المندفعة نحوه ، مبتعدا عن المواقف الخشبية ، ومسجلا انتصارا على المواقف الحربائية .
وأهم صندوق استطاع المثقف كسره وضمن له ديمومة العطاء عندما نزل من برجه العاجي وعالمه الافتراضي إلى الواقع المزدحم بالناس ، وناقش كل فرد بفكره الخاص دون إعاقة لفظية أو تشويه لقيمة أخلاقية ؛ لأنه يمتلك ثقافة مستقاة من معين نظيف وله نظرته العميقة التي يُدرك من خلالها إن الإنسانية الجديدة ، تتجه في الغالب إلى التفكك ، فلابد أن يكون هو الموجّه لها بقيمهِ الأخلاقية آخذا بيدها إلى أماكن ساحرة ، تبعدها عن النظرة المادية والغطرسة والأنانية التي تواجهها وسوف ترديها نحو الفناء .
بقي أن نُشِير إلى أنّ تعرض المثقف للتنمّر والإيذاء النفسي ، كان على مر العصور الإنسانية المختلفة وقد عبّر عن ذلك المؤرخ العراقي الدكتور محسن محمد في كتابه ( المثقف اللامنتمي ) حيث قال : ( إن سوء حالة المثقف في التاريخ الإسلامي تعبّر عن تراجع الأمة الإسلامية ؛ لأن مثقفيها ومفكريها الأقرب إلى الواقع ، ومن كانت تلقى على كاهلهم مهمة نقد الحاضر ، واستشراف المستقبل ، جوبهوا بالزندقة حيناً ، وبالكفر حينا آخر )
إن النخبة المثقفة يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع مفكري الدين في نسْق جميل ، وتُربّت فوق أكتاف جميع الفئات دون تحيّز أو تمييز عنصري ، حتى لا تخدش أسوار المجتمع بدعوى الإصلاح فيكون النِتاج انهيارا يهدد فكر المجتمع ويراود زعزعته .
التعليقات 1
1 pings
سهام البوشاجع
2020-08-12 في 10:22 ص[3] رابط التعليق
أحسنت مقال جميل جدا، بقي أن نعرف أن الثقافة هي بالفعل بروتوكول حياة فهي نتاج كل ما يتعلمه ويكتسبه الإنسان ويفطر عليه.