في واحة الأحساء ، أم النخلة والماء ، بزغ فجر شاعر المنيزلة اللامع الأستاذ / حسن عبدالله الشهيب ، فأبصر نور الحياة سنة 1380هـ .
وُلد في أسرة متجذرة في التدين والالتزام ، فترعرع ملتزمًا محبًا لله ولرسوله ولأهل البيت عليهم السلام ، إذ سخَّر يراعه في مديحهم ، والتغني بمناقبهم وفضائلهم ، مدافعًا عنهم في المحافل والمناسبات الإسلامية .
تأثر بأمه الأحساء وهي الولّادة بالمواهب والنوابغ من العلماء والأدباء والشعراء ، حيث روته بعذب مائها ، وغذته بتربة طبيعتها ، التي تمنح الصفاء والنقاء وسلامة الروح ، ووسط أسرته المتدينة وفي تلك البيئة الريفية الجميلة ، نشأ ميّالًا للأدب والشعر ، متأثرًا بالكلمة العذبة والنصوص الشعرية ، وكان لدراسته في القسم الأدبي في الثانوية العامة ، دورٌ في إشعال جذوة تعلقه باللغة العربية وفنونها المختلفة ، وهذا ما ولّد لدى شاعرنا القدير شغفًا وحبًا للشعر ، مما دفعه لإكمال دراسة البكالوريوس بجامعة الملك فيصل بالأحساء في تخصص اللغة العربية وهو في وظيفته بشركة الاتصالات السعودية ، ورغم المشاغل والظروف الصعبة إلا أنه نال هذه الدرجة وكان يتطلع لدراسة الماجستير لولا ظروفه الصحية .
ولا شك أن هذا الطموح انعكس على تكوين شخصيته الأدبية ، حيث الاهتمام باللغة والمفردات والمعاني والأساليب ، والفنون التي تعنى بالشعر والأدب بشكل عام .
إذاً يمكن القول بأن بدايته الشعرية كانت في أوائل المرحلة الثانوية ، إذ كتب أول قصيدة في مديح أمير المؤمنين عليه السلام عام 1409هـ وشارك بها وسط جمع من المؤمنين ، ونختار لكم منها هذه الأبيات :
لقد فاز من كـان الوصــي أميرهُ * هو العروة الوثـقى بدون انفصام
بصارمه الإسلام قــد شــدّ أزرهُ * فأصــبح صرحًــا للعــلى والوئام
وكن لازمًا للمرتـــضى باتباعهِ * فلا يــبلغ التقوى ضـعـيف الزمام
ألا إن من يـهوى علــــيّا بقـــلبهِ * يكن مطمـئنّا في ازدحـام المقــامِ
تلك كانت شرارة لغته الأولى ، وعنفوان نضيده اليانع ، ومنها انطلق إلى ساحة الشعر؛ يدير دفة إبداعه بين مديح الآل عليهم السلام ، والذي يَعتبرهُ من المبادئ والثوابت ، وبين الإبحار في فنون الشعر المختلفة ، والمشاركة في المناسبات الدينية والاجتماعية ، والاحتفالات والأمسيات الشعرية والأدبية التي احتضنتها واحة الأحساء في تلك الفترة ، ويرتادها الكثير من أدبائها العمالقة .
عندما تقع عيناك على إحدى قصائده أو بعض أبياته ، ستجد أنك أمام قامة شعرية كبيرة ، فقد تردد اسمه على مسامعنا منذ أن كنا صغارًا ، نردد أبيات قصائده أناشيدًا في أفراحنا ومناسباتنا الولائية ، فمن منا لا يتذكر أو يحفظ "يائيته" المشهورة ، والتي أصبحت تتلى في كل مناسبة تذكر فيها الأحساء أو المنيزلة ، وقد كُتبتْ في زواج الأستاذ / أحمد عبدالقادر الدليم " أبو مهدي " ويقول في مطلعها :
وفد السرور على الأحبـــة شاديا * وعلى "المنيزلة" الحـــبيبة بـاديا
فتبسمت حللُ الزهـور بعطـرهــا * ومن العبير الكونُ أصبح زاكــيا
رسم الزمان على الوجوه بشاشةً * وجلى الهمومَ وللقــلوب مـــداويا
إلى أن يقول :
بشرى السعــادة للكــرام مـضيئةٌ * نثرت على قــبب "الدليم" دراريا
وحــــدائق الســعد الرحيبة أنبتتْ * غصن المنى يحـنو بعطفه زاهيا
فهذه من القصائد العالقة في أذهان كثير من الناس ، لأنها تجري في بحر البسيط ذلك البحر الجميل ، وألفاظها قريبة من القلب ، خفيفة على اللسان ، مريحة للآذان ، لها عذوبة الماء وحلاوة العسل .
من هنا أجزم أن شاعرنا القدير ، لو لم تقف الظروف حائلًا أمام موجه الهادر ، لأصبح ذا شأن عظيم في منطقتنا ، إذ يمتلك أبرز وأقوى المقومات التي يحتاجها الشاعر ، ويمتاز بقدرته على تطويع المعاني وتشكيلها بقالب فني جميل دون تكلف .
ومما أوقد شعلة الشعر في وجدانه ، اقترابه الفريد من أدباء الأحساء وشعرائها ، حيث تربطه بهم علاقة وطيدة محببة ، تجمعهم المجالس وتذكي قريحتهم الأمسيات ، فيخرجون ما لديهم من بوح وأحاسيس .
ومن أولئك الأدباء الخطيب الكبير الملا / جواد كاظم المطر ( أبا هادي ) رحمه الله ، إذ كان شاعرنا ملازمًا لمجالسه ، وقريبًا منه قرابة الابن من الأب ، إذ يجد في الخطيب قدوة ملهمة وشخصية فذة قلَّ نظيرها ، وهذا ما جعل العلاقة بينهما علاقة ودية ، فتحدث بينهما الكثير من المساجلات والمحاورات الشعرية التي تثري الساحة الأدبية .
ويبدو أن الخطيب المرحوم لم يطِق فترة غياب " أبي علي " عنه لفترة طويلة ، مما دفع به أن عاتبه عتابًا أبويًّا لطيفًا بأبيات ٍ جميلة قال فيها :
ماذا دهــــى عـــقد الإخـا اللألاءِ * ففريدهُ أضــــحى بـغـير صفـــاءِ
مِن بعدما لمعــت لآلئ صِــدقـــهِ * فأزان حتى مــــفرق الجـــــوزاءِ
أأبا عـليٍ قـــد عهــــِدتُـــكَ لامعـاً * بالمكرمـاتِ كروضـــةٍ غــنّــــاءِ
ماذا الجفاءُ أجـــــفَّ نبعَ شمـائـلٍ * لــك عطّــر الأحـــساءَ بالأشــذاءِ
فاصغي لعتبي إذ أهجتَ حفيظتي * واقبلْ جــزيل العذر عن أخطائي
ويتضحُ أمامكم مدى القرب والمحبة التي يحملها المرحوم الخطيب تجاه ابنه الشاعر البار، وتجسد ذلك في هذا العتاب اللطيف من الأب لابنه .
وقد انطلق شاعرنا أبو علي من وازعه الديني المنبثق من الاحترام والتعظيم للقادة والفضلاء ، ليردَّ على العتاب بأبياتٍ تنضح بروح الحب والاعتذار ومودة الابن لأبيه وقدوته ومعلمه ، فيقول :
يحلو العتابُ من الأب المعطاءِ * عُـــتـباهُ فـــيهـا مـــودةُ الأبـــناءِ
دومًا ترى ينبوعَ ودّهِ مـــترعًـا * وجميل طبعـهِ منــــتقى الأشـياءِ
له صولةٌ فوق المنابر لم تــزلْ * برّاقـــة مِـن فـكـــرهِ الوضــــاءِ
يلتذُّ من يصغــي لعذبِ حــديثهِ * فيظلُّ مجـبولاً عـلى الإصغـــاءِ
يا رائد الإصلاح نهجكَ واضحٌ * كالشمسِ تطوي صفـحة الدكناءِ
عذرًا أبا هادي وهـــاكَ تأسّـفي * أُبــــدِيـــهِ دون تـــــسترٍ وخفـاءِ
من سوء حظ الابن أن يجفو أباً * والله يرضــى من رضــا الآباءِ
فدونك تلكم الأبيات ، في قصيدة من ستة عشر بيتًا ، وتأمل في لغتها وسهولة عباراتها وصدق عاطفتها ، فهي تزهو بالتشبيهات والجناس والترادفات ، ويختمها في آخر بيتين بالإشارة إلى الآية الكريمة في سورة الإسراء : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا .... ) بمعنىً لطيف وفكرة رائعة حينما يقول :
من سوء حظ الابن أن يجفو أباً * والله يــرضى من رضــا الآبـاءِ
ومن الأدباء والشعراء الذين كانت لشاعرنا معهم صحبة ، مؤسس منتدى الينابيع الهجرية بالأحساء ، الشاعر القدير ناجي بن داوود الحرز ، ففي أول زيارة قام بها شاعرنا للشاعر ناجي الحرز عام 1410هـ ، حدث موقف طريف يحض على إذكاء قريحة الشعر ، إذ نسي أبو علي أوراقه عند المضيف ، فما كان من المضيف إلا أن بعثها إليه ومعها هذا التساؤل الجميل :
ذُهل الشاعر عن أخذ قوافيه فماذا أذهله * أم تـــراهُ أغفـــل الأوراق كــيما نــسأله
عن بريق الأحرف النوراءِ ما هو ؟
وشــــذاه النّــــَد مـــن أيــن اجتناهُ ؟
أفـــأرضُ الشعــر أوحت أم سماهُ ؟
أم بحور الشعر جاشـت باللآلي مثقله ؟ * فتــــلقاها يصـــــوغ الفاتنات المذهله ؟
إلى أن يقول :
فانشر الآيـاتِ تــــبيـاناً وذكــرا
واملأ الأقداحَ ألحــــاناً وعطـرا
وابعث الأرواح سلطانًا وسحرا
قد هــــوينا مـن أقــاصيها قــلوباً مُجفَـله * تجتلي الأنوار فيضاً من ربى ( المنيزله )
وفي عام 1411هـ يكتب شاعرنا أبياتًا جميلة ، ردًا على الشاعر ناجي الحرز ، حول موقف نسيان الأوراق ، فيقول :
أيها الشاعر مهـــــــلًا يا رفيع المنزله * شعركَ المِـمراح عطرٌ نفحُهُ ما أجمَله
طاب للنـــفس وللقــلب شذاهُ
حيّر الفكرَ فـــلم يبـــلغ مـداهُ
أيُّ شعر يسمعُ الصمّ دعاهُ ؟
رُمتُ عزّا وافتخاراً بالقوافي المشعَله * كرمُ الألفـــاظ فـيها والمعاني الفاضله
أحوذيّ تأخــذ الأمر اتخاذا
لـــوذعيّ بكَ يـــلتذ الـتذاذا
أنت بحرٌ فيه من هذا وهذا
أعجيبٌ أن ترى الأوراق مــني مهمله * إنها من شعرك الوضاء أمست مخجله
فما أطيب هذا البوح ، وما أروع هذا اللفظ ، وما أجمل هذا الرد المرصع بسحر البيان ، يزدان بوضوح الفكرة وعذوبة الموسيقى ، ويتضح فيها مدى احترامه وتقديره للأدباء والشعراء .
جُلُّ قصائده قرأتها أثناء إعداد هذا المقال ، ووجدتها تسمو بالعقيدة الصادقة والحب العذري العفيف ، تتدفق فيها منابع الحكمة ، وتضيء بإشارات عميقة لآيات القرآن الكريم ، وتستظل بالروايات والأحاديث النبوية ، ففي غير قصيدة أجد الحكم المعبرة والنصائح التربوية النابعة من الفطرة السليمة .
فمن قصيدة له بعنوان : مسرح الأنوار في ميلاد سيد المرسلين صلوات الله عليه يقول :
شوق القلوب إلى التنـــوير مفتقر * من نور طــــه ظلام الليل ينهزمُ
والـــنور عـــمَّ بـــلاد الله قــاطبةً * والجدبُ رُدت إليه الروح والديمُ
أهل العلوم لفــن الجهل هـاضمة * والجاهلون بفن العلم قد عُصموا
ويفتتح قصيدة له في ميلاد صاحب الزمان عجل الله فرجه بنصائح قيمة لنيل الهدى بالتمسك بمحمد وآله الطاهرين ، وهي مليئة بالحكمة ، وتزيد على ثلاثين بيتًا ، فيقول :
اتبــــع بقلــــبك صفــــوة الجبار * واركــب سفـــينة أحـمد المختار
واهجر هواك ميمماً نحو الهدى * تلقَ الأمــــان بصحــبة الأطهار
لا تجعل الـــدنيا حليلتــــك التي * تغــــــريك باللذاتِ والأوطـــــار
مسيرة حافلة بالعطاء ، كرسها شاعرنا في خدمة محمد وآل محمد ، حيث يرى في ذلك قمة الفخر والاعتزاز ، ففي كل مناسبة يضع بصمة قلبه فيها ، يشارك المؤمنين أفراحهم ومسراتهم .
ففي أرشيفه الكثير من القصائد الولائية في حب آل البيت ، ووجدتُ أكثرها في أمير المؤمنين عليه السلام ، وربما هناك علاقة كبيرة بين شاعرنا وأميره ، ولا عجب ، فحب سيد الوصيين يتربع في قلوب الموالين منذ النشأة الأولى .
وفي هذا العشق يقول :
يهواك قلبي بلا مين ولا كذب * يكادُ من شوقه يفنى من اللهب
أنا هنا ، لا أقدم دراسة نقدية ، لأنني لست متخصصًا في هذا المجال ، ولكنني حرصت أن أجمع تراث من سبقونا من الذين ساهموا في الدفع بالعجلة الدينية والثقافية والأدبية في بلدتنا المنيزلة ، ورأيت من الواجب أن نعرف الأجيال القادمة بهذه الأسماء ، ولا شك أنها أسماء خالدة في ذاكرة المنيزلة ، وجدير بأن نعطيها حقها من باب التأريخ لتلك الفترة المشرقة بكل صعوباتها ، حيث ندرة الإمكانات وغياب الوسائل الإعلامية التي تعنى بهذا الشأن وإبراز وتوثيق نتاج رجال الفكر والأدب .
المصادر :
(1) أرشيف الشاعر ، مكالمة هاتفية ، أبناء الشاعر : أحمد حسن الشهيب.
(2) ديوان العنقود ، الشاعر / ناجي الحرز
التعليقات 3
3 pings
عبدالعزيز هاني الأحمد
2020-07-29 في 8:19 م[3] رابط التعليق
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
أ.بدر السالم ..
أولاً : اشكرك من عميق قلبي على إنصاف هذا الشاعر المظلوم بين أقرانه من شعراء الأحساء الذين يشار إليهم بالبنان .
ثانياً : اخي ابا علي صديق واخ الطفولة لديه جوانب خفية لا يعرف عنها الكثيرون وشهادتي فيه مجروحة فهو الإنسان الراقي والورع وحبيب الكل يتفانى من أجل أحبته وأصدقاءه شخص ودود دمث الخلق يخجلك بتواضعه وأنسه عند مجالسته لا تمل من اطروحاته وأحاديثه .
حفظك الله أخي ابا علي فأنت نجم من نجوم الأحساء المتلألئة اطال الله عمرك ايها الغالي .
وحياتي لك اخي بدر
بدر عبدالله السالم
2020-07-31 في 10:57 م[3] رابط التعليق
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
سعدت جدًا بمرورك أستاذي العزيز : أبا أحمد
وهذا قليل في حق أبي علي ، الشاعر الخلوق المتواضع ..
تحياتي
عبدالله حسين البراهيم
2020-08-03 في 6:27 م[3] رابط التعليق
شكر لك ..
تغطية ممتازة ..اتمنى الاستمرار لبقية المواهب المنيزلاوية ..