تتداول عدة أحاديث متواترة عن النبي محمد (ص) تشير الى ان العقل خلقه الله من النور كما قال (إنّ الله خلق العقل من نور مخزون مكنون في سابق علمه) وانه أول خلق الله الذي اشتق منه كل خير وجاءت هذه الأحاديث بعدة صيغ في مفرداتها إلا أنها موحدة الدلالة حين التمعن والتدقيق فيما بينها من رابطة النور الذي يجمعها فنذكر منها :
- (أوّل ما خلق الله العقل)
- (أول ما خلق الله نور نبيك من نوره)
- (أوّل ما خلق الله نوري)
- (أول ما أبدع الله سبحانه هي النفوس المقدسة)
ابتدأ الله الخالق خلق الذوات الروحانية من نور مستمدا من نوره فكان نور محمد (ص) أول الأنوار ثم اشتق منه انوار بقية الأنبياء والأوصياء وعند بدأ الخليقة البشرية (المادية) للإنسان ركب الله هذا النور في صلب آدم ع اول البشر متنقلا عبر شجرة الأنبياء الى أن وصلت ذروته في ذات النبي محمد ص أفضل وخاتم الأنبياء فقد ذكرت أحاديث كثيرة منقولة عن النبي محمد ص بهذا الصدد ومنها (كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام لما خلق الله تعالى أدم جعل ذلك النور في ظهره فكان يلمع في جبينه)
نستنتج من هذه المعلومات المختزلة ما يلي وإلا هناك الكثير من التفاصيل والأبحاث لسنا بصددها فقط أردنا تسليط الضوء على زاوية معينة للاستشهاد عن أصل بنية العقل الأساسية ومصدره الاولي :
- ان أصل مادة العقل خلقت من النور الإلهي .
- النور المذكور في الأحاديث بمعنى العقل والنفس .
- النفوس المقدسة تعني نفس النبي محمد ص والانبياء والاوصياء وذكر النفوس بدلا من العقل لأنه جزء من مكونات النفس فهي الكل والعقل جزء منها .
- أساس الخلق الشامل من طاقة النور كما قال الله تعالى { اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (سورة النور 35) وقد ركز الله هذا النور القوي في نفس وعقل النبي محمد ص يقول الله تعالى { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } (سورة المائدة 15) فقد كان عقل (قلب) النبي محمد ص يحوي القرآن ويحفظه فهو النور الحقيقي لنور النبي ص وعقله فقال تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (سورة الشعراء 192 - 194) وامر الناس بالإيمان به واتباعه { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (سورة الأَعراف 157) وقال أيضا { فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (سورة التغابن 8) لأن النبي ص هو النور والسراج المنير الداعي الى الله بالحق { وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } (سورة الأحزاب 46) فمن اتبعه يجعل الله له نورا { أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } (سورة الزمر 22) ويجازيه من نعيمه ورحمته ومغفرته { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة الحديد 28).
ويسطر التاريخ قول رائع ينم عن وعي ودراية عميقة لمعنى النور الحقيقي الذي ابتدأ الله به ملكوته ومخلوقاته تسرب عن لسان امرأة لقبها سيدة نساء العالمين واسمها فاطمة الزهراء ع وهي بنت النبي محمد ص ووريثته حيث قالت (بسم الله النور ، بسم الله نور النور ، بسم الله نور على نور ، بسم الله الذي هو مدبر الأمور ، بسم الله الذي خلق النور من النور ، الحمد لله الذي خلق النور من النور ، وأنزل النور على الطور ، في كتاب مسطور ، في رق منشور ، بقدر مقدور ، على نبي محبور ، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور وبالفخر مشهور ، وعلى السراء والضراء مشكور) فهذا القول يختزل ما ذكرنا بلغة رصينة وبلاغة متينة لا شك أنها مستمدة من فيوضات وتعاليم ذلك النور الروحاني الاولي الأصيل الذي وصفته .
من الناحية العلمية فإن الطاقة النورانية لها عدة انواع وأشكال مختلفة منبثقة من النور الرباني الاولي الأصيل .. وذلك تبعا لشدة ترددها وتذبذبها والطول الموجي والشكل البنيوي الذي يحكمها فقد سخرها الله تعالى في الكون على شكل أنظمة وقوانين لخدمة الانسان { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة الجاثية 13) هذا النور له اشكال وطاقات متنوعة بعضها ظاهر ومشاهد وبعضها لا يشاهد بالعين المجردة فيحتاج لوسيلة لكشفه والبعض الاخر ما عجز الانسان عن مشاهدته ورصده رغم يقينية وجوده.. ومنذ ان اكتشف الانسان طاقات النور ومازال يستفيد من خصائصها الفريدة التي لا يكاد يمر يوم الا وتهدينا من فيوضاتها الجمة التي لم تكن معروفة سابقا فتبنى عليها استنتاجات ومفاهيم معرفية كانت المحرض والهادي للعقل البشري مما استطاع به تطوير الأرض واستعمارها ونذكر بعض الأمثلة ومنها :
- أولا ..
النور المرئي هو جزء من الطيف الكهرومغناطيسي كالضوء المنبعث من الشمس والإنارات الطبيعية والاصطناعية { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } (سورة النبأ 13 - 16) ويتكون الضوء من الفوتونات واثرها الهام في انبعاث الحياة وتفعيلها على كل مكونات كوكب الأرض من دورات المياه المتعاقبة وحركات المد والجز في المسطحات المائية وغازات الغلاف الجوي والدفيئة والكائنات الحية كالإنسان والحيوان والنبات وتعاقب الليل والنهار.. ولولا ذلك لاستحالت الحياة البشرية عليه وانتهت { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (سورة النحل 12) ومن اهم آثار الضوء الشمسي هو عملية تكون الظل على الأرض { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا } (سورة الفرقان 45) وذلك بسبب تكور الأرض ودورانها مما ينتج عنه تعاقب الليل والنهار { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } (سورة الزمر 5) وجعل الله لهذه الأضواء والانوار مقادير ثابتة ودقيقة الهمت البشر لاستخدامها في عمليات حساب الزمن فوضعوا التقاويم والتواريخ في الحياة { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (سورة يونس 5) ولولا هذه الدقة المتناهية في قوانين الانوار الربانية والمتجانسة التي تدير الكون وما فيه لاستحالت الحياة البشرية فوق الأرض { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (سورة القصص 71 - 73)
وللضوء سرعة مقننة تساوي 300 ألف كم في الثانية الواحدة تعمل على التوازن الفلكي وكذلك من فوائد الضوء المرئي اظهار الصور والالوان للعين المسؤولة عن حاسة الابصار.
- ثانيا ..
النور الغير المرئي ويصدر من الشمس والنجوم والأجرام السماوية بشكل طبيعي ضمن حزمة الطيف الضوئي الغير مرئي أو من خلال أجهزة المحاكاة الاصطناعية كالأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق بنفسجية وكذلك أشعة اكس وجاما والراديوية ولها ترددات واطوال موجية لا يمكن للعين البشرية إدراكها وإبصارها لانخفاض مقدار ترددها أو شدتها لكن يمكن رصدها والاستفادة من طاقتها بواسطة أجهزة ومعدات خاصة تستخدم في مجالات مختلفة ..
- ثالثا ..
توجد قوى أخرى نورانية مشتقة من النور الأولي الأصلي ولكن بمركبات بنيوية مختلفة تعرف بالقوى الأربع المعروفة حتى الآن والتي تتحكم في البناء المادي للكون من ما دون الذرة وحتى ما فوق المجرة وهي :
- قوة الجذب العام :
بنيتها من الجرافيتون تعرف بالجاذبية اأو الثقالة تأثيرها يكمن في عمل التجاذب والتوازن بين الأجسام والأجرام السماوية { اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (سورة الرعد 2) نفهم من الآية الشريفة ان السماء مرتفعة عن الأرض بعمدٍ لكن غير مرئية لنا وهي ما تعرف اليوم على المستوى العلمي والتجريبي ب (الجاذبية) وقواها التي تفرض توازنات الكون وتماسكه وتجعل الاجرام السماوية تجري في مسارات فلكية بتناغم دقيق في سباحة كونية هادئة تطفو بين أمواج الجاذبية وحقولها المختلفة فتبقيها طافية ومعلقة { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (سورة يس 40)
وكذلك للجاذبية دور هام في تثبيت الأرض ومكوناتها ولو أردنا فهم مدى فاعليتها فلنتخيل هذا الأمر بالنفي أي لو أن قوة الجاذبية غير موجودة (9.8 متر في الثانية) أو قيمتها غير مناسبة بالزيادة أو النقص فكيف ستكون الحياة على الأرض ؟
حتما ستكون مستحيلة ومتعذرة طويلا كما أثبتت التجارب ذلك من خلال عيش الإنسان في الفضاء خارج الأرض وما تحدث من آثار جانبية فضلا عن التكاليف الباهظة فقد خلق الله الإنسان بنمط ومقومات تناسب العيش على الأرض { وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (سورة النور 45) ونجد إن الله الخالق قد أعطى بعض الكائنات الحية كالطيور قوة دفع ورفع مقاومة لقانون قوة الجاذبية فتحلق بسهولة ودون معاناة ومنها استمد الإنسان محاكاته للطيران { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } (سورة الملك 19) وفي هذه الآية إشارة ودلالة واضحة على أن قوة الطيور المقاومة للجاذبية هي هبة من الله ومتصلة به جعلها في الطيور المخلوقة بتصميم ذكي تساعدها على الطيران { لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ } (سورة الكهف 39) ومن جهة أخرى نرى ورود لفظ (الرحمن) جاء من الرحم والصلة أي أن نور الجاذبية وقوته متصل بمصدر النور الأولي الأصيل ..والله أعلم .
- القوة الكهرومغناطيسية :
بنيتها من الفوتونات وتعمل في الأجسام والجسيمات المشحونة كهربائيا بالتجاذب أو التنافر فتتحكم في الخصائص البيولوجية والكيميائية للذرات ومداها لا نهائي .
- القوة النووية الضعيفة :
بنيتها من البوزونات وهي المسئولة عن النشاط الاشعاعي عند تحلل الأجسام دون الذرية .
- القوة النووية الشديدة :
بنيتها من الغلوونات وهي القوة التي تحافظ على تماسك نواة الذرة وتعمل على مستوى الأجسام دون الذرية .
إن هذه القوى بنيت عليها قوانين ونظريات فيزيائية وكيمائية وكهربائية ..استثمرت في تحقيق الكثير من الإنجازات التي ساهمت في تسهيل حياة البشر مثل الاتصالات بأنواعها كالبث المرئي والمسموع أو آلات تحديد المواقع والقياس أو تحديد المكونات الذرية للمواد وعمل تفاعلات كيمائية تحت ظروف معينة لإنتاج مواد اصطناعية جديدة..
تعتبر هذه القوى بمعنى آخر ضمن قوى النور وتوزيعاته المذهلة التي تحكم عالم الوجود فيحاول علماء اليوم التوصل لصيغة نهائية للتوحيد بين تلك القوى وعلاقتها ببعض للخروج بفهم أفضل للكون وما حوى .
من جهة أخرى يقر العلماء بدقة العلاقة بين هذه القوى ونسبها الحسابية والبنيوية التي شكلت الحياة والكون بمجمله فلو حدث أي خلل بسيط فيها لاستحالت الحياة ولأنهار الكون { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } (سورة الرعد 8 - 9) فسبحان الخالق المبدع المتعال.
- رابعا ..
الطاقة النورانية الروحانية ومنها خلق الله الذوات الملائكية والبشرية والجنية .. وهي ضمن التصنيف الغير مرئي فقد عجز الانسان حتى عن صنع أي آلة يمكن أن ترصد وتظهر هذه الترددات النورانية رغم حتمية وجودها نقلا وعقلا فقط ترصد من خلال الشعور بها أو دلالة وجود الحياة في وعائها والقالب الخاص بها ومن الممكن أن تكون هذه الطاقات مرئية لدى بعض البشر بشكل مباشر من دون وسائط - وسنفصل ذلك لاحقا - ضمن ظروف وقدرات خاصة.. ونحن هنا للبحث عن هذه الطاقات النورانية بالنسبة للإنسان المعروفة بـ (النفس) هذه الماهية اللطيفة التي يعرفها الفلاسفة بانها (جوهر الانسان) لها مكونات متجانسة كالعقل والفؤاد .. نستطرد بشكل أعمق لنصل للنتيجة فنقول :
خلق الله عالم الوجود بصفتين هما :
-
- العالم المادي المشهود (المرئي) ويعرف بالعالم المادي المنظور أو الملموس ويشمل كل ما له كتلة وحجم وكثافة ويمكن رصده .
-
- العالم النوراني الغيبي (الغير مرئي) ويعرف بالعالم الميتافيزيقي أي عالم ما وراء الطبيعة والمادة ويشمل أنواع من الطاقات المتذبذبة التي تنظم العالم المادي المشهود .
وقد ذكر الله الحكيم في كتابه إشارات توضح هذا المعنى فقال { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } (سورة السجدة 6) وأيضا قال { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ } (سورة لقمان 20) فنحن نعيش وسط عالمين متداخلين تحكمهما الطاقات المادية والنورانية المتذبذبة كل يكمل متطلبات العالم الاخر بالنسبة للإنسان يكون الجسد متصلا بالعالم الأرضي المادي المشهود فهو من مواده الاولية واليه يعود ولن يستطيع العيش الا ضمن القوانين والسنن الميكانيكية المعروفة كالجاذبية والحركة والسرعة ولن يتجاوزها بل محصور في حقل مادته التي خلق منها { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } (سورة المؤمنون 12 - 16)
واما الروح ونفس الانسان فهما مخلوقتان من سنخ وصنف النور الغير مرئي المتصل بالنور الرباني الاولي الأصيل { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } (سورة ص 71 - 72) فهما متصلتان بعالم الغيب الغير مرئي فلا يمكن مشاهدتها بالعين المجردة ولا تتأثران بقوانين الحياة الدنيا على الأرض المعروفة او قوانين الجسد رغم اتحادهما وانطباقهما معه ليكونوا نموذج الانسان الحي ومن دلالة هذا النوع من الاتصال قوله تعالى { وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } (سورة الأَنعام 3) فالجهر بالقول او الحديث الخارجي يكون عبر قوى الجسد المادية اما السر او الحديث الداخلي يكون عبر قوى النفس التفكيرية والتخيلية ففي كلا الحالتين الله الخالق العالم قادر على معرفة ما يعمل مخلوقه وما يفكر فيه لحظيا لأنه الاقرب اليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } (سورة ق 16) كيف لا يعلم وهو من ابدع صنع هذا المخلوق العجيب فتبارك الله احسن الخالقين ورب العالمين { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (سورة غافر 64) واودع فيه طاقة من النور جعلها واسطة ورابطة بينه وبين عبده كوسيلة اتصال ومناجاة ذات تردد عالي بلا شك انها اسرع من سرعة الضوء بأضعاف مضاعفة لنقل البيانات والمعلومات المشفرة التي لا يستطيع احد ان يطلع على بثها المباشر { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (سورة غافر 60) .
اذن عقل الانسان خلق من النور وهذا النور يختلف عن مادة الجسد المحدودة بل له قدرات تفوق الوصف تتكسر عنده حدود قدرة الجسد الميكانيكية ولكن لا يدركها هذا الانسان الا بشكل ضعيف او بعد فوات الأوان في آخر لحظة من حياة الدنيا وفي اول لحظة من الحياة الاخرى { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } (سورة ق 22) نعم ان في تلك اللحظات يصبح بصر الانسان الداخلي حديد فينكشف له العالم الغيبي بتذبذباته النشطة فيرى الأشياء على حقيقتها ليرى جوهر الأشياء ونفوسها ويسمع الطيور والجماد والنباتات يسبحون الله { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } (سورة النور 40 - 41) يستطيع الانسان ادراك بعضا من هذه القوى في حياته فقد فعّلها لله للبشر للتصديق بالعالم الاخر الغيبي والدلالة عليه ذلك عندما يغيب الوعي عن الجسد في حالات مثل النوم والاحلام او الاغماء أي اللحظات التي تسافر فيها النفس بوعيها العقلي خارج الجسد المادي هناك تتحرر النفس من قبضته فتنشط قواها الفعلية لتسافر بين ابعاد (الزمكان) المتباعدة بكل يسر وسهولة فتلتقي بالماضي او تستشرف المستقبل لتعيش لحظات مملؤة بالمشاعر الحقيقية على اثرها يكون الإحساس عند العودة من الرحلة بين السعادة او الخوف بحسب محتوى الرحلة واحداثها وأهدافها .
لقد خص الله أنبيائه ورسلة برؤية هذا العالم الغيبي الحقيقي بتفاصيله الدقيقة ليرسخ فيهم الايمان واليقين لانهم يملكون قابلية مستمدة من النور الاولي الاصيل فيأهلهم لرؤية العالم الثاني الغير مرئي الذي ينبض بالنشاط والحياة بين ظهرانينا كما حصل مع النبي إبراهيم ع { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } (سورة الأَنعام 75) وايضا قال الامام علي بن ابي طالب ع ( لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيْنَاً ) ويقصد انه لو كشف عن بصره الحسي غطاء ملكوت العالم الغيبي الثاني فرآه لما ازداد يقينا بالله لأن ايمانه بالله قوي وصل حد اليقين من غير ان يكشف عن بصره وحواسه.. او بفهم آخر يتضح انه مرفوع الغطاء أصلا في حياته فيرى ذلك العالم الملكوتي فوصل حد اليقين ولا يحتاج ان يكشف عنه بصره وقت مفارقة الحياة الدنيا مثل باقي البشر .
خلاصة :
نخرج بنتيجة أن العقل يقع في القلب (القلب النفسي) هذا ما ثبتناه من أهم وثيقة معلوماتية وعلمية ثابتة هو القرآن الكريم إن صح التعبير لأنه كلام الله والله هو من خلق هذا العقل وأسراره والعالم بتفاصيله .. وهذا ما استنبطناه أيضا من أقوال النبي محمد ص واستنتجناه من أقوال وصيه الإمام على بن أبي طالب "ع" وهذا أيضا ما أثبته العلم الحديث بشكل قاطع .. وعلى عكس ما فهمه العلماء القدماء والمفسرون من أن العقل يقع في القلب (القلب الجسدي) ويحاول علماء الإعجاز القرآني إثبات هذا أيضا ..
أعتقد أن منشأ الخلاف يكمن في عدم فهم النصوص القرآنية بالفهم الصحيح فالقرآن له (تفسير ظاهر) وله (تأويل باطن) عندما نمتلك القدرة على الربط والمزج بين الأمرين وتدعيم الاستنتاج بأقوالٍ من الراسخون في العلم ممن أقوالهم مستمدة من الوحي الرباني فإن الفكرة المستجدة ستجد داعما قويا يثبتها .
إذن لا خلاف بين العلم والإيمان أو الدين فالحقيقة واحدة وثابتة لكن أفهام الناس هي سبب الخلاف فكل يفهمها من زاويته القاصرة فيتعصب لها رغم أن الكل يتحدث عن أمر واحد لكن يختلفون في منهجية فهمه وتفكيكه فتبدو النتيجة متباينة .