هذه المرة القصة كاملة فلقد قالتها لي جدتي كاملة بل وكررتها علينا أنا وأخوتي أكثر من مرة
كانت جدتي رحمها الله ذات يوم في فناء بيتنا القديم جالسة في الظل القابع على جدران الباحة التي تتوسط المنزل وقد سطعت أشعة الشمس الخفيفة في يوم شتوي بارد نسبيا مما حدا بجدتي أن تخرج لتستمد شمس الضحى مستندة الى الجدار وتحت وارف ظلها المنعكس عليه
وفي يدها "طاسة" من الحناء قد أغمست فيه خصلات من شعرها حين مررت بجانبها لألقي عليها تحية الصباح
صباح الخيرات جدتي: لتقول: صباحك الصبيح والورد والتفيح ولا أعلم ما هو هذا التفيح أيكون قصدها التفاح؟
ما هذا يا جدتي؟ سألتها كعادتي سؤال لا يخلو من الفكاهة في حين كنت أعرف الإجابة مسبقا
ردت علي قائلة: ألا تعرفين الحناء يا بنت هذا الوقت، قلت لها: آها حناء، كم هو جميل على شعرك يا جدتي
ثم بادرتها وقلت: جدتي متى ستخبريننا أنا وأخوتي حكاية جديدة من حكاياتك الحلوة، فقالت الليلة بعد صلاة المغرب استعدوا
لم تسعن الفرحة حين وعدتني بحكاية جديدة فرحت أخبر أخوتي أن الليلة سنستمع إلى حكاية جديدة من جدتي فلا يتأخر أحدهم عن الموعد المحدد.
جاء المغرب وقد انتهت جدتي من صلاة المغرب ونحن ننظر إليها جميعنا مع كل حركة وكل سكنة نتابعها إلى آخر حرف أنهت معه صلاتها وما أن "طوت" سجادتها إلا وقد صحنا هيا يا جدتي، نحن ننتظر الحكاية.
قالت: بسم الله الرحمن الرحيم ما شاء الله عليكم جاهزين فقلنا لها: منذ الصباح يا جدتي ونحن ننتظرها
بدأت جدتي حكايتها وهي من على لسانها ولكن بقلمي كالتالي:
قالت: جدتي، كان يا ما كان في قديم الزمان كان في امرأة وزوجها وبنات زوجها الأربع يعيشون في بيت واحد وقد كانت الزوجة حامل في شهرها الأخير سعيدة بحملها الأول وتنتظر وليدها الذي كانت تتمناه صبي حتى يحمل اسم والده وكعادة الناس في تلك الأيام لابد أن يكون للرجل ولد يحمل اسمه وإلا خلق ذلك مشكلة اجتماعية كبيرة.
في صباح يوم من الأيام استيقظت الزوجة وكان اسمها "مريم" وهي تصرخ على بنات زوجها وتناديهن واحدة واحدة، خديجة، صالحة، منى، عواطف فلما سمعت الفتيات اسمائهن تراكضن إلى زوجة أبيهم: نعم يا خالتي
تقول جدتي أن الخالة قالت: "تخلخلت" أضلاعكن إلى الآن نائمات وما عملتن الفطور وأبوكن صاحب عمل قالت لها عواطف أصغرهم: يا خالتي: لم تشرق الشمس بعد!
وهنا غيرت جدتي ملامح موجهها وتغير منظر عينيها وقالت "شفتوا نظرتي هذه الشزرة هذه نفس نظرة "مريم" إلى عواطف، وقالت: لها، أنت يا "العنفوص" فيك حق بعد وتتكلمين!
وعندها سألنا جدتي: ما معنى العنفوص؟ فقالت: يعني آخر العنقود والصغيرة جدا.
قمنا بهز رؤوسنا ونحن نقول "آها" وطلبنا منها أن تكمل.
قالت: جدتي أن الأخوات صحن بصوت واحد "حاضر يا خالة الآن سنحضر الفطور ولا يهمك"
وقالت لهن خالتهن عقابا لكن على التأخير اليوم الفطور عليكن "عصيدة" (وهي عبارة عن تمر ودقيق وسمن )
فصحن الأخوات: عصيدة يا خالة الآن!
قالت: نعم ولكن نصف ساعة وتكون جاهزة وإلا!!
أخذت جدتي عصاها التي كانت بجوارها وقالت لنا أن الأخوات الأربع كانت تنفذ ما تقوله لهن زوجة أبيهم وإلا كانت تضربهن بعود من الخيزران كانت تخبأه تحت السرير حتى لا يراها والدهن وتحصل مشكلة بينها وبينه.
وكانت الأخوات لا يقلن لوالدهن شيء حتى لا يعكرن عليه فرحته بزوجته ومولوده القادم.
فبعد وفاة والدتهن لم يفرح والدهن ويهنأ له بال إلا بعد أن تزوج بمريم ظنا منه أنه وجد الأم البديل عن أمهن الراحلة وحتى يلاقين البنات رعاية منها وأيضا تأتي له بولي العهد المولود الولد.
قامت الأخوات لعمل العصيدة وبالفعل بعد نصف ساعة جهزت وأكل الجميع منها ثم قالت لهن "مريم" سأخرج في مشوار سيوصلني والدكن إليه لا أريد عند عودتي أن أرى أي صحن متسخ بهذه العصيدة.
وبالفعل غسلت البنات الأطباق جيدا ونظفت المكان وعند عودة مريم من مشوارها أخذت تتفحص الأواني وتشرف على مدى نظافتها إلا أنها رأت قطعة صغيرة من العصيدة في قعر "الجدر" الذي طبخت فيه فصاحت الخالة: بنات
من غسل الجدر؟ فقالت خديجة أنا، قالت مريم: لا أعتقد أنك أنت يا خديجة، اعترفن من قامت بغسل الجدر فقالت عواطف أنا من غسلته يا خاله هل فيه مشكلة ما قالت: نعم
أنظري أنت لم تغسليه جيدا، وعقابا لك غدا ستعملين العصيدة أنت وحدك.
تقول: جدتي هنا جاءت فرصة لمريم أن تنتقم من بنات زوجها لأنها دائما كانت تغار منهن خصوصا "عواطف الصغيرة" التي كانت تستحوذ على أكبر قدر من الدلال والحنان من قبل زوجها وأخواتها.
وهنا اكفهر وجه الأخوات وصحن بالخالة لكن يا خالتي عواطف ما زالت صغيرة كيف ستعمل العصيدة وحدها؟
قالت: وحدها ودون مساعدة.
في الصباح قامت عواطف باكية لا تعرف من أين تبدأ إلا أن خوفها من زوجة أبيها أرغمها على ذلك فقامت وأحضرت الدقيق والتمر كما كانت ترى أخواتها يعملن وعملت شيء يشبه العصيدة ولكن ما أن أرادت أن تسكبه في الصحن المخصص له إلا وقد سمع الجميع صرخة عواطف، وتراكضن إليها أخواتها وزوجة أبيها وأبيها ليراها الجميع وقد احترقت بجدر العصيدة.
فقام الأب مسرعا بتلطيف الحروق ووضع عليها كمية من الدقيق البارد وكان ينظر إلى الجميع بعصبية صارخا
لماذا لم يساعد عواطف أحد منكن في إعداد الفطور؟
أرادت صالحة أن تنطق وتقول زوجتك منعتنا ولكن خديجة أغلقت فهما بينما في نفس الوقت صاحت "منى" زوجتك أرادت عواطف أن تعمل العصيدة لوحدها، فسأل الأب غاضبا، ولماذا؟
قالت: لأنها لم تغسل الجدر جيدا بالأمس وهذا عقابا لها.
نظر الأب إلى زوجته وقال لها خافي الله يا مريم البنت ما زالت صغيرة.
قالت: مريم، وهل ستعاقبني على ذلك!
رد الزوج وقال: صحيح أنك زوجتي الغالية ولكن لا أرضى لك أن تعرضي بناتي خصوصا الصغيرة منهن للخطر ولذا بالفعل سأعاقبك، وعقابك أن تعملي عصيدة أخرى لنا وللجيران ولجيران الجيران.
تقول: جدتي مريم من كثر ذهولها قامت تضحك ثم عبست ثم ضحكت مرة أخرى
وانتهت يا حلوين حكايتنا اليوم.
المهم: جدتي انتهت الحكاية هكذا نحن فرحنا بنهايتها وعندما كبرنا وبدأنا نتذكرها بدأنا نتساءل هل قامت بالفعل "مريم" بعمل العصيدة لهم وللجيران ولجيران الجيران؟ أم أنها تمردت؟
وكنا نتمنى لو بالفعل كانت جدتي على قيد الحياة لتخبرنا بذلك حتى وإن كانت من وحي الخيال كنا سنقتنع بما كانت ستقوله لنا رحمها الله.
التعليقات 2
2 pings
علي سلمان الناصر
2019-08-05 في 9:55 م[3] رابط التعليق
قصة جميلة نستلهم منها عبق الماضي الجميل
2019-08-06 في 9:01 ص[3] رابط التعليق
أشكر مرورك أخي الكريم وجميل أن لاقت القصة من استحسانك