كعادتي نائم، انتفضت مرفرفا بعدما صافحتني برودة الماء الذي شرِبَته أمي مؤخرا، أيقظت أخي بالربت على جدار غرفته الذي يفصلنا، وبدأنا بدورتنا المعتادة، سبحنا وسط كومة من الخيوط والأغشية نمد الأطراف تارة ونقبضها أخرى، لا نبارح اللعب بهذا الحبل الممتد من وسطنا!
بالخارج أسمع صوت أبي الذي أشتاق إليه، متأملا أن يأتي بمزاج هادئ هذه المرة ، أو وردة واحدة يبهج بها قلبي أمي المنهكة من واجباتها المنزلية فترتاح، تلك الراحة التي تسري لفلذة كبدها ما يعزز نموا أسلما، لكن صفعة الباب أخبرتني بأنه لم يتغير البتة! ثم أن الضوضاء المفتعلة من دون سبب تتكرر تقريبا أربع مرات في اليوم! إذا هذا ليس ضغط الكهرباء التي يعالج أسلاكها في عمله، تهيأ له أمي أسباب الراحة من دون أن تنبس بكلمة أو أن تتأثر بانزعاجه وتوتره، تواصل التحكم في مشاعرها من أجلنا مستذكرة حكمة قرأتها ذات مرة: " الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه".
في المساء، تثير حركة أمي انتباهه، إذ لا تنفك عن المشي بساقين متباعدتين ووطأة قدمها اليمنى الأثقل من اليسرى، وظهرها المتوسد كفها اليسرى العالقة بأسفله! يسألها بتعالٍ وتهكم:
- إن كنت تتألمين فلماذا لا تتفوهين بالآه عوضا عن وشوشتي وكأنك كرة بندول؟
- ليست آلام معتد بها، إنما أعمل حسب توصية الطبيبة لتسهيل المخاض.
- يبدو أن قصر قامتك سيسفر عن أطفال لا يصلون للشرفة!
- عطية الرحمن خير، وأن يرزقنا الله عافيتهما وبرهما لهو أولى مما تفكر به، ثم أنهما قد يبدوان بقامة عالية أو بشرة سمراء كأبيهما.
- لا تثيري الحماقات، ولا تنسي بأني أبو مازن، مازن ابني الحبيب الذي سيخرج أولا، وهو من سيمنحني الكنية التي طالما انتظرتها، أما الثاني فهو ابنك سميه ما شئتِ!
- أعاننا الله، وإلى حين ولادتي أسأله لك الهداية.
أخي يستمع لاسطوانة المفاضلة هذه من دون أن تُحرك فيه ساكنا، ربما لثقته بأنه يسبقني للحياة، لكن كيف عرف هذا القدر المخفي؟! وربما يكون حينها نائما ولا يسمع ما أسمع! أو يبدو لي أن هذا الأمر لا يهمه وأنه سيكتفي بالعيش دون أب تقريبا، أو بالأصح دون أدنى اهتمام، ودون الكنية طبعا!
أما أنا فأخدش نفسي بأظافري كلما استعصت عليّ لغة النطق، وكلما سمعت هذه التراهات البائسة.
حسنا، عليّ أن أفعل شيئا، العد النازل قد بدأ، تمارين الدوران التي أصنعها يوميا قد لا تجدي، وقد أخسر السباق حينها، اجتهاداتي في مصّ ابهامي لا تطعمنني جرعات مكر ناجعة، سأكف عن الحركة قليلا، أستلقي وأعاود المص هذه المرة مع حكّ الرأس، ركبتي اليمنى عند رأسي والأخرى أمدها ضاربا بها بطن أمي، أعلم أن لا ذنب لها فقد سمعتها ذات مرة تقول لأبي: "إنَّ لَهُم عليك مِنَ الحَقِّ أن تعدِلَ بينَهُم ، كما أنَّ لكَ عَليهِم مِنَ الحَقِّ أنْ يبرُّوك" لكنه لا يعِ أحاديث العظماء.
جهازي العصبي مرتبط بقدمي وكلما غضبتُ ركلتها، لكنها تبتسم، تظنها علامات الولادة، وتطمئن من سلامتي إذ تحسست حركتي، ولكنها غالبا ما تحكم عليها بأنها انقباضات براكستون هكس الغير منتظمة، أو تقلصات رحمة، ما عرفت أن في باطنها العذاب!
تشنجتُ هذه المرة أكثر من المعتاد، مفتعلا ألم المخاض الذي لم يحن أوانه، لم يعد أمامي أي خيار، ضاعفت الركلات من كل الجهات، حتى سمعت بكائها وصراخها: ساعدني يا أبا مازن، ارتفع حنكي الأيسر للأعلى مبتهجا وقد ذُكر اسمي ونجحت حيلتي.
سمعت صوت أبي فسيارة الإسعاف وأخيرا صوت الطبيبة: لا تخش شيئا، سيطرنا على الوضع والحمد لله، إن تهاني عانت من تسارع في نبضات قلبها وارتفاع في ضغط الدم فجأة، لكنها الآن على ما يرام والطفلين بخير وستلد في وقتها بعد أسبوعين بإذن الله.
خابت المساعي، وعادت الهواجس، ماذا لو لم أكن الأول؟! هل سيهنأ أخي؟! وما ذا لو مت بسبب تأخري؟ حسنا علي أن أنتظر تلك الولادة المشؤومة وسنرى من سيكون الابن الأثير.
بعد أسبوعين، سمعت صراخا متجددا، وصوتا آخر يهدأ الروع ويخفف المحنة، لابد بأن الولادة الحقيقة حانت، شعرت بكيس أخي ينزلق قبلي، استدرت موجها رأسي للأسفل ولليمين لأسد عنه المنفذ، لكن سرعته تفوقني مالعمل؟
لقد تقدمني، ولأول مرة أشعر بأنه هو مازن، جداري ينقبض وكيسي يصغر، لا بد أنه استطاع العبور لبوابة الحياة، أسمع بكاءه، أذن له أخيرا بالفرار، بالحياة، بالأفضلية، باللقب الذي تمناه والدي، لااااا
أصابني الهوس، هو لم يخرج بعد، علي أن أعيد حساباتي قبل فوات الأوان، سأستدير ليعود رأسي للأعلي وقدماي بالأسفل، احتاجهما، ها أنا أنقبض بشدة وركبتاي في بطني، خرجت مقدمة شعره للطبيبة، مدّت يديها لتخرجه، بأقصى قوتي ركلته بلا رحمة، تدفق دمه مع جسده، تناولته وغسلته ولفّته بقماش أبيض وسلمته لأبي محتسبة: البقاء لله، لثم وجهه الحزين ومضى للدفن.
هو حتى لم يسألها عني، ولم ينتظر خروجي، هل سيكون أخي الأول حتى في قبره!
هل سأبقى المولود الثاني الذي لا يشكل اعتبارا لوالدي؟! واسوأتاه واخيبتاه.
في الفترة الفاصلة بين المولودين تكثف أمي قراءتها للقرآن الكريم تصل لقوله تعالى: "﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا - أولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ..."
ماذا أسمع؟ أخسرين أعمالا! ما جدوى الحياة إن كنت سأخرج لها بقلب ملؤه الكراهية والحسد، كيف سأكون حينما أكبر وأنا الآن بذرة شقاء، قد أعيث في الأرض فسادا وينمو على يدي الضلال، هل عليّ أن أخرج وأعترف لوالداي بجرمي فيحاسباني بطريقة مثلى، أم أبقى معشعشا في هذه الظلمة معتزلا الدنيا والناس والحياة؟ إلى متى ستتحملني هذه الأحشاء، كم أشعر بالانحطاط، وما ذنب أمي إذ تحمل هذا القلب المشوه بداخلها، علي أن أطهرها والآن.
مسكت حبلها السري ولففته حول عنقي بلا هوادة محاولا الانزلاق تحته عدة مرات.
انتهت...
التعليقات 3
3 pings
حجي العيد
2018-09-08 في 7:17 ص[3] رابط التعليق
ما فائدة هذه القصه ؟؟؟؟
2018-09-08 في 8:25 ص[3] رابط التعليق
رائعة … قلم خيالي جميل
عبير علي
2018-09-09 في 3:41 ص[3] رابط التعليق
جميييل جداً