ملخص للمحاضرة التي قدمتها الاستاذة الفاضلة أم منتظر الاحمد والتي قدمتها لجمع من الاخوات كإستعداد للحاجات قاصدات بيت الله الحرام لاداء حج هذا الهام 1437هـ وللتعبئة الروحية والتربوية ... والاحكام الشرعية ضمن سلسلة متعددة من التوجيهات والارشادات .
بسم الله الرحمن الرحيم
تعيش الامة الاسلامية خلال هذه الايام استعدادها لتعيش أجواء وبركات فريضة الحج ، هذه الفريضة والشعيرة المقدسة تعتبر ذات اهمية كبرى بين الفرائض التي فرضها الله عَزَّ وجَلَّ على المسلمين ضمن شروط وأحكام وضوابط خاصة .، وهو ركن من اركان الدين وأعظم شعائر الدين وأفضل الاعمال والتي يراد بها التقرب الى الله .
و الآيات القرآنية قد كشفت لنا عن جوانبَ من فلسفة الحج وبيَّنت شطراً من الأهداف والمقاصد المنشودة من تشريع هذه الشعيرة المقدسة، لكن ما تمَّ الكشف عنه قد لا يكون إلا جزءً من المصالح والفوائد والحِكَم والأهداف التي من أجلها شُرِّعَ الحج.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهداف هذا التشريع الإلهي المهم بصورة مُجْمَلَة، قال الله عَزَّ وجَلَّ : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ... } [سورة الحج: الآية27و28]، وهذه الآية صريحة في إشتمال الحج على منافع للناس، ولا بد أن هذه المنافع والفوائد تُشكِّل جزءً من فلسفة الحج وأهدافه المنشودة.
ولو أردنا إلقاء الضوء على المنافع المتصورة للحج لوجدناها كثيرة ومتنوعة لا تكاد تجتمع في غيرها من العبادات، وهذه المنافع بعضها عبادية وبعضها تربوية، وأخرى اقتصادية وسياسية واجتماعية....الخ .
وما سنقف عليه في هذه السطور هو البعد العرفاني فقط .
البعد العرفاني للحج
الافعال العبادية في الاسلام لها صورة ظاهرية وصورة باطنية واسرار عرفانية مدهشة،خصوصا شعيرة الحج حيث يجتمع فيها المسلمون من كل قوم ولون ولسان وعنصر في العالم في بقعة واحدة ، ويرفعون شعاراً موحداً نحو هدف واحد. فهو يمثل بعثا مصغٌرا في دنيا الانسان . ويشتمل ايضا على مقامات واحوال عالية كالخلوة والجلوة والذكر والتفكر والسكوت والعزلة والاجتماع. وكل يأخذ منه حسب سعته وادراكه وايمانه ...، ونظراً لابعاد الحج العرفانية الواسعة واسراره وصفاته المتعددة نشير في هذا المقام الى بعض اسرار ومنازل ومقامات الحج :
المنزل الاول: السير من الخلق الى الحق
عن طريق امتثال أمر الله في التجرد عن ماسوى الله من زينة الحياة الدنيا وبهرجتها بغية الوصول اليه ولهذا المنزل مراتب متعددة أهمها:
المرتبة الاولى: التوبة من خلال الابتعاد عن الصفات الحيوانية نحو الصفات الانسانية العليا وترك هوى النفس الامارة بالسوء باتجاه الفضائل الاخلاقية والمراتب المعنوية.
المرتبة الثانية: اليقظة
وتتجلى في المعرفة بمقام الكعبة والحرم ومنزلتهما عند الله جل وعلا ، وماوفق له العبد من معرفة القيم الانسانية باداء ماوجب عليه من اعمال الحج، وعدم ارتكاب مامنع منه، وهذا يعني ان الله لا يتقبل كل عمل صادر من الانسان الا اذا اقترن بالورع والتقوى : 'انما يتقبل الله من المتقين' وان الانسان في محضر الخالق المتعال والنبي الاكرم(ص) والاولياء والصالحين، 'وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون' .
المرتبة الثالثة: التخلية
وهي افراغ القلب من كل الصفات السيئة، وحز جذور تلك الصفات المميتة للقلب كالحسد والبخل والكبر والرياء والكذب والنفاق..
المرتبة الرابعة: التحلية
وهي تحلية القلب بالخصائص الاخلاقية الحميدة والفضائل الانسانية العالية كحب الخير والاخلاص والتواضع والسخاوة والصدق والرأفةوالزهد و... وفي هذه المرحلة يتحول الحج الى حج ابراهيمي ويتجه الانسان الى الله سبحانه وتعالى بقلب ابراهيمي حنيف ويقول: 'اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين' . وبهذا يخلص نيته في سفره المعنوي الى الله ويبتعد عن الدنيا الدنية ولا يرضى الا برضا الله : 'الا ابتغاء وجه ربه الاعلى' . بحيث يصطبغ بصبغة إلهية تجعله ينسلخ عن الماديات : 'صبغة الله ومن احسن من الله صبغةً .
المرتبة الخامسة: التجلية:
وهي مرتبة الاولياء والاصفياء من عباد الله المخلصين وفي هذا المقام يلّف الحاج السالك هالة من النور الالهي: 'وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس' ويصل الانسان الى مقام العبودية بلطف من الله، وفي هذه المرتبة يميّز الانسان القيم العليا عن اضدادها، والطيبين من الخبثاء والحق من الباطل: 'يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا' .
وماورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق(ع) يختصر كل هذه المنازل المعنوية والروحية للحج حيث قال: 'اذا اردت الحج فجرد قلبك لله عزّ وجل من قبل عزمك من كل شاغل وحجب، كل حاجب، وفوّض امورك كلها الى خالقك، وتوكل عليه في جميع مايظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ولا تعتمد على زادك وراحلتك واصحابك وقوتك وشبابك ومالك ، فان من ادعى رضا الله واعتمد على شيء صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم انه ليس له قوة ولا حيلة ولا لاحد الا بعصمة الله تعالى وتوفيقه، واستعدَّ استعداد من لا يرجو الرجوع واحسن الصحبة وراع اوقات فرائض الله وسنن نبيه (ص) .....'( مصباح الشريعة الباب/ 22).
المنزل الثاني:
السير من الحق في الحق: ويلخص هذا المعنى قوله تعالى ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) وهذا المنزل يصل فيه الحاج إلى مقام العبودية ويشتمل هذا المنزل على اعمال:
1ـ الاحرام:
وهذا يعني الورود الى منطقة تحرم على الانسان امورا توجب عزة الحاج في سيره وسلوكه، وليس المحرومية والمنع، ومع هذه الحرمة يستشعر الحاج بالاستغناء عن كثير من امور تعلق بها في حياته اليومية، وبالاحرام والابتعاد عن هذا التعلق بالامورالممنوعة يتصف الانسان بصفة الهية الا وهي التشرف بالمحضر الربوبي كما ورد في الحديث: 'عبدي اطعني حتى اجعلك مثلي' . حال كونه ملّبيا لبيك اللهم لبيك... والتلبية التي هيمن الشعائر العظيمة في الحج، يرفع الحاج صوته بها طارداً كل الشياطين من حوله، مطيعاً لأمر مولاه (نبي الرحمة محمد(ص) ) حيث قال: أتاني جبرئيل فقال لي: ان الله يأمرك ان تأمراصحابك ان يرفعوا اصواتهم بالتلبية فانها من شعائر الحج' .
2- الطواف:
فهو عمل شابه لما تقوم به الملائكة حول عرش الله: 'وترى الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم' . فطواف العباد حول بيت الله كطواف الملائكة حول العرش، وتكرر الطواف لترسيخ المحورية الربانية، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس: من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه'.
3- صلاة الطواف:
عند ما يصل الطائف الى مقام العبودية يجب عليه الشكر وصلاة الطواف هي الشكر لله ومعراج المؤمن وقربه لله. استمرارية الشكر تتكامل باستلام الحجر وتقبيله عن جابر: 'ان النبي(ص) استلم الحجر فقبله واستلم الركن اليماني فقبل يده' .
والاستلام هو خضوع امام عزة الله ورضا بتقديره كما ورد في الحديث: 'واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزته' .
4- السعي بين الصفا والمروة:
فالسعي عمل يوحى الينا تلك الذكرى العطرة لشيخ الانبياء(ع) بكل التوحيد الذي حاز على مقام العبودية والتسليم من الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم: 'اذ قال له ربه اسلم قال: اسلمت لرب العالمين' . فالسعي بين الجبلين تجسيد لعمل إمرأة هرولت وسعت رجاءً لرحمة ربها في صحراء الظمأ والغربة سعياً لسقي طفلها، وعندما اخلصت النية لربها تحقق الأمل الذي مظهره ماء زمزم وواقعيته ماء الحياة. وسعي المؤمنين مجاميع وطوائف بين الصفا والمروة بتلك الحالة يبرز عظمة واقتدار المجتمع الاسلامي، ويرهب المشركين. كما ورد في الحديث: 'انما سعى رسول الله(ص) بالبيت وبين الصفاوالمروة ليري المشركين قوته' .
ويفر الحاج بهرولته من هوى النفس والغرور الكاذب المفتعل ليصل بروحه وباطنه الى مقام الحضور واللقيا لحضرة الحق: 'وهرول هرولة من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك' .وايضاً: 'صفّ روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا'( مصباح الشريعة الباب 22 ) .
5- التقصير:
هو السير من عالم الملكوت الى عالم الناسوت ومن لذة الروح الى لذة الجسم ومن الوحدة الى الكثرة، والتقصير تحليل بعد التحريم: 'لولا ان الشياطين يهجمون على قلوب بني آدم لنظر الى ملكوت السموات والارض'( البحار 70/59 ) .
6- الخروج الى عرفة:
هناك يعترف العبد بذنوبه امام خالقه 'واعترف بالخطايا بعرفات' . ويكتسب المعرفة بالمبدأ والمعاد وبتوحيد الله: 'وجدد عهدك لله بوحدانيته' . ومعرفة ان: 'ليس في الدار غيره ديار' . وقد جاء في الحديث: 'افضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وافضل ماقلت انا والنبيون من قبلي: لا اله الا الله وحده لا شريك له'( كنز العمال 5/ 66 ).فعرفة محطة ينطلق الانسان فيها من علم اليقين الى عين اليقين ومن عين اليقين الى حق اليقين.
7- الخروج الى المشعر الحرام:
فالمشعر عند الله ذو مرتبة ومقربة وقد جاء توصيفه باجلال واحترام في القرآن الكريم: 'فاذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام'
فالمطلوب في هذا المكان المقدس وفي افضل ساعات اليوم (بين الطلوعين) هو ذكر الله فقط فبذكر الله يكتسب الانسان سبيل العبادة وفي مشعر الحرام يسري الايمان من القلب الى جوارح الانسان ومشاعره وما نهله الانسان في عرفات. فذكر الله يرسخ في قلب الانسان وعينه واذنه ولسانه وجميع جوارحه لتحصل مشاعرنا على حياة جديدة.
8- الخروج الى منى:
عندما نزل جبرئيل على ابراهيم قال له الله : 'تمنى يا ابراهيم' فَسُمي هذا المكان بمنى فهي ارض الأمل والرحمة والفضل والكرامة واستجابة الدعاء وطلب سعادة الدنيا والآخرة ويمكن القول: ان افضل لذات الحج هي لذة عمل العبد لربه في منى.
9- رمي الجمرات:
العبد الذي يروم الوصول الى مقام القرب عليه ان يقارع طاغوت الباطن والنفس الامارة بالسوء والطواغيت من شياطين الجن والانس، فرمي الجمرات الثلاث هي في الواقع طرد طاغوت النفس والذي يشكّل اكبر خطر على الانسان: 'اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك'( -عدة الداعي/ ص 295. . وطرد شياطين الجن (من ابليس واعوانه)وشياطين الانس (اعداء الدين والقرآن والبشرية).
10- الاضحية:
هي سنة لا تقبل الا من المتقين: 'انما يتقبل الله من المتقين' فالتضحية قمة الفداء والايثار في سبيل المحبوب واحياء لذكرى النبي ابراهيم (ع) الذي أقدم على تقديم اسماعيل قرباناً لربه وتلبية لأمر ربه: 'فلما بلغ معه السعي قال يابني اني ارى في المنام انّي اذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أپت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه ان يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين'
11- التقصير:
وهو تعبير عن ازالة ما تبقّى من الصفات الدنية واصلاح القلب من الكبر والرياء.
12- طواف النساء:
يحل العطر والاستمتاع بالنساء على المحرم بعد الطواف؛ فالسّر قد يكون في اهمية السيطرة على الغرائز بعون من الله حتى وان بلغ الانسان مقام العبودية، فهذا يوسف الصديق(ع) عندما اجتاز محكات الامتحان شكرالله على عونه : 'وإلاّ تصرف عني كيدهن أصبُ إليهنّ واكن من الجاهلين'.
13- زيارة المدينة:
ومن اهم الاعمال المندوبة بعد اتمام الحج زيارةالنبي الاكرم(ص) وتعتبر بعض الاحاديث: ان الحج بدون الزيارة ناقصة كما جاء في الحديث: 'اتموا برسول الله(ص) اذا خرجتم الى بيت الله الحرام فان تركه جفاء ( وسائل الشيعة 10/ 255.)
المنزل الثالث:
السير من الحق الى الخلق:
يبدأ هذا المنزل بالرجوع من مكة والمدينة الى الوطن، فالمسؤولية في هذا المنزل اعظم من المنزلين السابقين فهناك كان على الانسان بناء نفسه والحفاظ عليها، وفي هذا المنزل الخطير عليه بالثبات والمحافظة على تلك القيم التي عاشها في الحج بحيث يصبح اسوة لمن حوله في قوله وعمله وسلوكه، فالهداية الكبرى من الحج هي احياء الانسان وهدايته: 'من احياها فكانما احيى الناس جميعا'.
وجاء في الحديث الآخر: 'واستقم على شروط حجك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك واوجبته الى يوم القيامة لذا الشارع المقدس فرض الحج مرة في العمر ، فهي محطة يتزود منها المسلم تكفيه طيلة عمره .
اللهم تقبل حجنا واجعله مبرورا وسعينا مشكورا وتفضل علينا بالقبول .