الجزء الرابع
◾ يصنف بعض الباحثين الخطاب الزينبي بالخطاب الإعلامي العاطفي المصبوغ بصبغة المظلومية ، لكن هذا الخطاب في حقيقته لم يقتصر على البعد العاطفي فقط ، خاصة عند تتبع خطابات السيدة زينب(ع)في الكوفة والشام الذي مزجت فيه إحساس العاطفة بكوامن العقل ، فكانت مرة تخاطب العقل ومرة تخاطب الروح ومرة تخاطب العقل والروح معاً .
◾ يكمن ذكاء السيدة الحوراء (ع) في توظيف الأسلوب العاطفي في خطاباتها ومواقفها وتنقلها بين بواطن العقل وكمائنه ، خاصة مع بتعاملها المباشر مع مجتمعات تعيش حالة من السبات والغفلة ، كمجتمع الكوفة والشام ، لذلك عمدت إلى إرسال رسائل عاطفية واعية تعمل على إثارة عواطفهم وتلامس عقولهم وتعمل على كهربتها وتحرك كمائنها وتسيطر في نهاية المطاف على جوارحهم ، وهذا ما ينقله حذيم الأسدي عن خطبتها في أهل الكوفة قال: فأومأت زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) إلي الناس بالسكوت ، قال : لم أر والله خفرة ، أنطق منها ، كأنها تنطق و تفرغ عن لسان علي (ع).
◾ استطاعت السيدة زينب (ع) أن تعري حقيقية يزيد بن معاوية أمام عامة الناس حينما خاطبته: ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك ، أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك و إمائك ، و سوقك بنات رسول الله (ص) سبايا قد هتكت ستورهن ، و أبديت وجوههن ، ألا فالعَجَب كلّ العجب.. لقتلِ حزبِ الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء!! فيالها من كلمة بليغة ومقارنة عجيبة اختصرت فيها استخفافها بقدره ، وهوان مخاطبتها له ، فأرجعته إلى أصله المتدني ، وقدره الحقيقي ، وكأنها تقول له : ليس من العدل أن أخاطب أمثالك ، فلا قدرك ولا قامتك الصغيرة تؤهلك أن أخاطب أمثالك !! ، فأنت وأبوك وجدك طلقاء عند جدي محمد (ص) ، فهذا قدرك ومكانك الذي تستحقه ، ولست مؤهلاً أن تتربع على إمرة المسلمين.
◾ إن نفي يزيد بن معاوية لعنه الله للسيدة الحوراء(ع) من الشام إلى المدينة المنورة ومنها إلى الشام مرة أخرى جاء بسبب إدراكه للدور الاستراتيجي الذي لعبته الدمعة والصرخة الزينبية في تأجيج الساحة الاجتماعية على خلافة بني أمية ،وهو مايعرف الآن بالتحريض والتأجيج الإعلامي للشارع العام على سياسات الحكومات الجائرة .
◾ أظهرت خطابات ومواقف السيدة الحوراء(ع) قدرة فائقة في إرسال رسائل عاطفية بصبغة عقلية قل نظيرها في التاريخ ، وهذا يبدو جلياً في خطاباتها ومحاججتها لعبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية لعنهما الله ، وكانت تلك الرسائل القوية قادرة على تأجيج الرأي العام وقلب الطاولة على سياسة بني أمية الظالمة.
◾ إن المتتبع لخطب السيدة زينب(ع) في أهل الكوفة ومجلس عبيد الله بن زياد وفي مجلس يزيد بن معاوية في الشام يجدها محتوية على مفردات ومعاني فريدة ودقيقة ، تخلصنا لنتيجة بأن السيدة زينب(ع) لم تلقن تلك الخطب تلقيناً بل استنبطتها استنباطاً من خلال علمها وفقاهتها أو من إشارات تلقتها من الأئمة المعصومين .
◾ الوقفة الأولى مع عبارة السيدة زينب(ع) في خطبتها لأهل الكوفة حينما وضعتهم أمام تساؤل محاط بالتعجب بقولها : أفعجبتم أن تمطر السماء دماً؟ كونه تساؤل بليغ متناهي في المعنى والدلالة يبين بشكل جلي مدى قدرة السيدة زينب(ع) في صياغة تساؤل بهذا النوع وبتلك الطريقة ، كونه تساؤل خاص أرادت منه إثارة عقولهم ، وكانت صيغة التعجب فيه مصدر إثبات لهول وعِظم الجريمة التي اُقترفت في حق الإمام الحسين (ع) ، وتأكيداً على الحقيقية التي اشارت إليها في تساؤلها!!.
◾ الوقفة الثانية مع عبارة السيدة زينب(ع) في خطبتها لأهل الكوفة حينما وضعتهم أمام تساؤل محاط بالتعجب بقولها : أفعجبتم أن تمطر السماء دماً؟ أن هذا الخطاب لم يكن خطاباً آنياً ، لاسيما أن أغلب أهل الكوفة لم يشهدوها فاجعة كربلاء ، لكنها أرادت أن تضعهم في صورة هذا الحدث المهول الذي حدث يوم عاشوراء ، وكيف أن السماء تفاعلت مع مقتل الإمام الحسين (ع) بهذا التفاعل العجيب ؟ وبالرغم من ذلك لم يكن بمقدور أحد كائن من كان أن يكذب كلام السيدة زينب(ع) أو يعترض عليها ، فلو كان كلامها غير مطابق للواقع لوَجدت العشرات من أتباع ابن زياد وجيشه لا يتوانون في الوقوف بوجه مقولتها وتكذيبها علانية ، في محاولة منهم لسلب شرعية أقوالها والحيلولة بينها وبين تأثيرها على أهل الكوفة.
◾ الوقفة الثالثة مع عبارة السيدة زينب(ع) في خطبتها لأهل الكوفة حينما وضعتهم أمام تساؤل محاط بالتعجب بقولها : أفعجبتم أن تمطر السماء دماً؟ أرادت السيدة زينب(ع) وضع صورة متكاملة أمام البشر على أن التفاعل مع فاجعة مقتل الإمام الحسين(ع) ليست مقتصرة عليها وعلى أهل بيته ؛ بل أثبتت بالفم الملآن والبرهان القاطع أن التفاعل مع مقتل الإمام الحسين(ع) شمل سائر الموجودات في هذا الكون ، فإثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، بمعنى : إثبات السيدة زينب(ع) على أن السماء بكت دماً على مصاب الإمام الحسين(ع) لهو تصريح واضح بالتفاعل والتأثر الكوني من كل موجودات الكون بمصيبة الإمام الحسين(ع).
◾ الوقفة الرابعة مع عبارة السيدة زينب(ع) في خطبتها لأهل الكوفة حينما وضعتهم أمام تساؤل محاط بالتعجب بقولها : أفعجبتم أن تمطر السماء دماً؟ إن خطابات السيدة زينب (ع) في حقيقتها هي من سنخ وغايات خطب أمها السيدة فاطمة الزهراء(ع) ، بمعنى أن السيدة زينب(ع) أرادت إيصال رسالة واعية للأجيال المستقبلية لكي لا تصبهم حالة من التشكيك والريبة حول هول ماحدث في كربلاء من مصائب وفجائع في حق الإمام الحسين(ع) وأهل بيته ، وتأكيداً على حقيقية إثبات التفاعل الكوني بكل موجوداته مع الفجيعة العظمى التي اقترفت في يوم عاشوراء.