الجزء الثالث
◾ قد يتساءل كثير من البشر ماهو السلاح الفتاك الذي تسلحت به السيدة زينب(ع) ولعب الدور الاستراتيجي في كهربة عواطف الناس ولفت انتباهها وإيقاظها من سبات الغفلة المطبق بسبب الهالة الإعلامية المظللة الأموية ؟ إنه باختصار شديد : سلاح الدمعة الزينبية الحارقة ، وهو السلاح الذي أدرك يزيد بن معاوية لعنه الله مدى خطورته وتأثيره وفاعليته في استقطاب الناس وكسب عواطفهم ، لذلك عمِل بكل الوسائل المتاحة لديه للتصدي له ، لكن كل محاولاته باءت الخيبة والفشل .
◾ استطاعت السيدة زينب (ع) تغيير موازين الفطرة البشرية في علاقتها مع الإمام الحسين(ع) ، بحيث قدمت عقيدة الإمامة على رباط الأمومة ، فكانت شخصية الإمام الحسين(ع) الشخصية المسيطرة على جوارحها وتفكيرها ، والاسم المتكرر على شفتيها - بالرغم أن لها ابنين استشهدا مع خالهما في يوم عاشوراء.
◾ العجب من نداء أطلقته الحوراء (ع) في سماء يوم عاشوراء لتسوقه الرياح إلى مسمع أخيها الإمام الحسين(ع) متيقنة من استجابته لندائها وقالت بكل ثقة : حاشى ابن والدي أن تضمه خيل أو رجال !! ، والأعجب من ذلك الأخ الجسور الذي منح جسماً مملوء بالجراحات ودماء تسيل منه كالميزاب قوة خفية لايعلم سرها غير خالقه ، ليقف على رجليه الداميتين يخطو خطوات ثم يقع على الأرض ثلاث مرات تلبية لندائها ، إلا يحق لنا أن نقف حائرين ومتسائلين : ياترى!! ما سر تلك الثقة المتناهية التي جمعتكما يا أبناء علي وفاطمة؟.
◾ تعد حالة التجلد والصبر التي ظهرت بها السيدة زينب(ع) يوم عاشوراء من عجائب الزمان بحيث أظهرت إيمانها الراسخ بمبادئ السماء ولبت نداء الرحمن وضحت بكل غال ونفيس من أجل تثبيت أركان الدين والدفاع عنه ، ويتجلى ذلك في موقفين شاخصين للعيان الأول : حينما قدمت جواد المنية لأخيها الحسين(ع) يوم عاشوراء ، والثاني : حينما رفعت جسد أخيها المقطع عن تراب كربلاء ونادت خالقها بكل ثبات : اللهم تقبل منا هذا القربان.
◾ إن العلاقة والاتصال المستمر بين السيدة زينب(ع) وخالقها لهو الإلهام والغذاء المستمر الذي خلد وأبقى ديمومة اسمها في ذاكرة التاريخ الإنساني ، و استطاعت من خلاله دحر كل إنسان فَكر في تحديها ومواجهتها كأمثال عمر بن سعد وعبيدالله بن زياد ويزيد بن معاوية ونظرائهم من الظالمين عبر التاريخ .
◾ ماهي القوة الكامنة في طيف زينب الحوراء (ع) ليقف أمامها ثلاثين ألف مقاتل وينفرجوا لها سماطين كي يروا صنيعها بعد مقتل أخيها في ظهيرة عاشوراء؟ !! إنها المهابة والكبرياء للمرأة التي لا تنكسر شوكتها وترعب أعدائها حتى في أشد محنها ، وتردد ساعات الأيام ونجوم السماء: أنها اللبوة الشامخة زينب بنت علي(ع) بطلة كربلاء.
◾ من يفسر لنا ماهو نوع ومستوى القدرة التي تمتعت بها السيدة زينب (ع) التي استطاعت بواسطتها السيطرة على عواطف أعدائها يوم عاشوراء؟ بحيث أجرت دموع العدو قبل الصديق ؛ بل سيطرت حتى على عواطف الحيوانات ، فرؤوا دموع الخيول تجري على حوافرها!! ثم بسطت يديها تحت بدن أخيها المقدس ورفعت طرفها نحو السماء وقالت بكل تجلد : إلهي تقبل منا هذا القربان.!!
◾ قد يكون من الطبيعي تأثر إنسان بمصاب إنسان فتسيل دموعه على وجهه ، وقد نجد حيواناً يتأثر بمصاب إنسان فيعبر بسلوكه عن تأثره بذلك ، لكن بربك : هل سمعت عن خيول تأثرت بمصاب إنسان كزينب الحوراء(ع) بحيث لم تكن تبكي على مصابها فحسب ؛ بل كانت دموعها تسيل من عيونها سيلاً حتى جرت على حوافرها؟!!.
◾ ماهي بواطن ودلالات نداء أطلقته السيدة زينب(ع) في ساحة كربلاء يوم عاشوراء ، حينما وقفت على مصارع أخوتها وأهلها وخاطبت فيه جدها المصطفى (ص): يا جداه يا محمداه ، هذا حسين بالعراء مرمل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، تسفي عليه الصبا قتيل أولاد البغايا وبناتك سبايا ، وذريتك مقتّلة؟!!.
◾ يا لله .. يازينب بنت علي !! كيف حافظتي على عفتك ومناجاتك مع ربك في آن واحد ؟ أجابتني برباطة جأش : إنه الإيمان والتفويض إلى أمر الله ، فبالرغم مما لقيته من مصائب وأهوال في يوم عاشوراء التي هدت قوتها وأضعفت جسدها ، لكن ذلك لم يمنعها من إخفاء طيفها لتجلس على الأرض وتصف قدميها ، وتقيم صلاتها وتناجي خالقها ، فأعطت بذلك موقفا ًشامخاً و درساً بليغاً لبنات حواء في متانة العلاقة بالله حتى مع هول المصائب ، وسبل المحافظة على الشرف والعفاف في آن واحد!!.
◾ ماهو مستوى رباطة الجأش والشجاعة التي تحلت بها امرأة كزينب الحوراء (ع)حينما واجهت أميراً ظالماً؟ فأسقطت مرسومه الأميري ودحضت حجته ومرغت أنفه بالتراب ونسبته لأمه الساقطة ، وذلك حينما أراد عبيد الله بن زياد كسر شوكتها بعد مقتل أهلها فخاطبها في مجلسه : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ، فقالت السيدة زينب (ع): الحمد لله الذي أكرمنا بالنبي محمد(ص)، وطهرنا من الرجس تطهيراً ، وإنما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر وهو غيرنا ، فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت: والله ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كَتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فأنظر لمن الفلج يومئذ ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.
◾ أي تناغم وشموخ فريد من نوعه بين الأصول والفروع ، بين الأم وأبنائها : فالسيدة فاطمة الزهراء (ع) خاطبت قمة السلطة في مسجد أبيها بنسبته إلى أبيه ، ولم تخاطبه بإمرة المسلمين ، كذلك حال الإمام الحسين (ع) في خطبته يوم عاشوراء حينما أشار إلى يزيد بن معاوية وقال : إن الدعي ابن الدعي ركز بين اثنتين بين السِلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، واكتملت صورة ذلك التناغم الشموخ عند ابنتها الحوراء زينب (ع) حينما خاطبت أمير الكوفة المتبجح و نسبته لأمه مرجانة ، فأرجعته إلى أصله المتردي الذي لا يُعرف له أب يُنسب إليه ، وكذلك الحال حينما وقفت في مجلس دمشق وخاطبت يزيد بن معاوية وقالت له : يا ابن الطلقاء .