الجزء الثالث
- استخدم المأمون كل الوسائل المتاحة أمامه لإثبات عدم صلاحية الإمام الجواد(ع) للإمامة والقيادة ، وأنه أولى منه بالخلافة والقيادة ، لكنه فشل في مخططه ، مما اضطرّه لتجربة أسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام بتزويجه ابنته أم الفضل ، وهي خطوة هدف المأمون من خلالها في تحديد حركة الإمام(ع) وليس حباً وإكراماً له، كما أنه قد كشف عن واقعه مآله وعاقبته التي تجلّت في اشتراك أُم الفضل في جريمة اغتيال الإمام الجواد(ع) أيام حكم أخيه المعتصم .
- مواقف متعددة ظهرت من المأمون بعد تزويج الإمام محمد الجواد(ع) من أبنته أُم الفضل بينت أن أهم أسباب تلك المصاهرة وأكثرها خطورة على عقيدة الإمامة هو جرّ الإمام محمد الجواد (ع) إلى ميادين اللهو واللعب ساعياً لهدم الصورة الملائكية للإمامة والعصمة التي يراها شيعة أهل البيت(ع) في أئمتهم والتي خفق في تحقيقها من الأساس ومن تلك المواقف : موقف الإمام الجواد (ع) مع جواري المأمون وتنكره لهن ، وموقفه من مغني يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب ، أراد إغواء الإمام الجواد (ع) بالغناء والطرب ، فلم ينتفع ما بيديه ، فسأله المأمون عن حاله فقال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أُفيق منها أبداً ، وظل كذلك إلى أن مات .
- لجأ المأمون إلى قاضي القضاة ابن الأكثم لإغوائه وتحريضه في التصدي للإمام وإحراجه بالأسئلة الدينية والعقائدية الصعبة ، لكن دهاءه وحنكته السياسية جعلاه يظهر الفرح والسرور حينما يُجيب الإمام الجواد (ع) على المسائل المعقدة ، فتوحي ملامح الفرح التي تظهر على المأمون أن توجهات ابن الأكثم هي توجهات فردية بينما هي خطة من خطط المأمون نفسه ، وهذا لون من ألوان السياسة المتبعة حتى الآن ، يُظهر فيها القائد أو الحاكم الودّ لجهة ما ، لكنه يأمر أتباعه وأذنابه بمحاربتها في الخفاء والعلن.
- لم يجد الإمام محمد الجواد (ع) بداً في والرد على ابن الأكثم وإظهار عجزه أمام الناس لعدة أسباب أولها: إثبات إمامته وعلمه أمام الناس في وقت راحت الجهات المعادية تشن حملة إعلامية شديدة على الإمام بادعائها أنه لا يفقه من الدين شيئاً وذلك لصغر سنه ، ثانياً : إن تفنيد الإمام الجواد(ع) وإفحامه لابن الأكثم كان يعتبر تفنيداً وإفحاماً للنظام الحاكم باعتبار أنّ ابن الأكثم عالم المأمون وقاضي قضاته ، ثالثاً : إن من واجب الإمام الجواد(ع) تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم من خلال إجاباته على أسئلة ابن الأكثم حتى لا يبقوا في جهلهم وضلالتهم .
- من أهم المفاهيم الخاطئة عند الأُمة وواجهها الإمام محمد الجواد (ع) هي ظاهرة الغلو التي لم تتخذ لوناً واحداً بل كانت ثمة ألوان متعددة، ومنها الغلو في الصحابة ، وهذا ما يقرأ في قصة الإمام الجواد(ع) وقول يحيى بن الأكثم له : ما تقول يابن رسول الله في ا لخبر الذي روي : أنه نزل جبرائيل (ع) على رسول الله (ص) وقال : يامحمد ! إن الله عز وجل يُقرئك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عنّي راض فإني عنه راض ؟ فرد الإمام الجواد(ع) : «لست بمنكر فضل أبي بكر ، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله(ص) في حجّة الوداع: قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله عز وجل وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به ، وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله ، قال الله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ، فهل خفي على الله عز وجل رضا أبي بكر من سخطه حتى يسأل عن مكنون سره ، هذا مستحيل في العقول !!.
- ومن روائع ردود الإمام محمد الجواد (ع) على ظاهرة الغلو بالصحابة حينما سأله يحيى بن الأكثم : قد روي : أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرائيل وميكائيل في السماء فقال الإمام الجواد (ع) : «وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه; لأن جبرائيل وميكائيل ملكان لله مقرّبان لم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عزّ وجلّ وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله فمحال أن يشبّههما بهما، فقال يحيى : وقد روي أيضاً : أنهما سيدا كهول أهل الجنة. فما تقول فيه ؟ فقال الإمام الجواد (ع) : وهذا الخبر محال أيضاً ، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبّاناً ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أُمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول الله (ص) في الحسن والحسين (ع) بأنهما « سيدا شباب أهل الجنة » ، فقال يحيى بن الأكثم : وروي أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ، فقال الإمام الجواد (ع) : وهذا أيضا محال ، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمد(ص) ، وجميع الأنبياء والمرسلين لا تضيء بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر ؟ ! ، فقال يحيى بن الأكثم : وقد روي : أن السكينة تنطق على لسان عمر ، فقال الإمام الجواد (ع) : لست بمنكر فضل عمر ، ولكن أبا بكر أفضل من عمر ، فقال على رأس المنبر: إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا ملت فسدّدوني . فقال يحيى : قد روي أن النبي (ص) قال : لو لم أُبعث لبُعث عمر ، فقال الإمام الجواد (ع): كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) ، فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ، وكان الأنبياء (ع) لم يشركوا بالله طرفة عين؟ فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟!! ، وقال رسول الله (ص) : « نبّئت وآدم بين الروح والجسد . » فقال يحيى بن الأكثم : وقد روي أيضاً أن النبي (ص) قال : ما احتبس عنّي الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب ، فقال الإمام الجواد (ع) : وهذا محال أيضاً ، لأنه لا يجوز أن يشك النبي(ص) في نبوّته ، قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟! قال يحيى : روي أن النبي (ص) قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلاّ عمر، فقال (ع) : وهذا محال أيضاً ، لأن الله تعالى يقول : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) ، فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحداً ما دام فيهم رسول الله(ص) وما داموا يستغفرون الله».
- لم يترك المأمون حيلة ووسيلة للنيل من الإمام الجواد (ع) والتقليل من شأنه طيلة سبع عشرة سنة قضى الإمام أغلب سنوات إمامته فيها ، حتى توفي المأمون سنة 218 هـ ، ثم انتقلت السلطة في يد أخيه المعتصم ، وبقي فيها الإمام الجواد (ع) مدة قصيرة لم تتجاوز السنتين ، ختامها بالشهادة على يد النظام العباسي المنحرف .
- تحمل قصر المدة الزمنية التي بقاها الإمام محمد الجواد (ع) في حكم المعتصم العباسي التي لم تتعد سنتين عدة دلالات أولها : أن قرار تصفية الإمام الجواد (ع) من قبل السلطة العباسية كان قراراً حتمياً سواء أيام حكم المأمون أو المعتصم ، لكن الظروف السياسية في حكم المأمون لم تكن مواتية لتنفيذ ذلك القرار الخطير بدليل لجوئه إلى خيارات متعددة أنهجها مع الإمام طيلة فترة بقاءه في حكمه ، ثانياً: أن أول قرار أتخذه المعتصم بعد تسلمه لسدة الحكم هو استدعاء الإمام محمد الجواد(ع) من المدنية المنورة إلى بغداد خشية بقاءه بعيداً عنه ليكون على مقربة منه يحصي عليه أنفاسه ويراقب حركاته ، ثالثاً : إن استقدام المعتصم للإمام الجواد (ع)لبغداد بمثابة فرض الإقامة الجبرية عليه ، وهي مقدمة لتنفيذ قرار التصفية الجسدية المتخذ سابقاً ، رابعاً : ما ساعد المعتصم تنفيذ قرار التصفية الجسدية للإمام محمد الجواد (ع) هو تحالف ابنة أخيه أم الفضل معه في مخططه الخطير ، وهو ماسهل عليه تنفيذ قرار التصفية بعد مدة قصيرة من قدوم الإمام الجواد (ع) إلى بغداد حيث وصل في آخر يومين في شهر محرم ، وتم تنفيذ قرار تصفية الإمام الجواد (ع) بالسم في في ذي القعدة من نفس السنة .