الجزء الثاني
- ترادف عجيب بين لقب الأب والابن ، فذاك الأب لقب بالرضا لرضا المآلف والمخالف عنه ، فلقب برضا آل محمد ، وهذا الابن محمد الجواد(ع) التجأ إليه الملهوفون من عامة المسلمين لدفع ما ألّم بهم من مكاره الدهر وفجائع الأيام فنال لقب باب المراد.
- اقتضت الحكمة الربانية تقلد الإمام محمد الجواد (ع) لمنصب الإمامة في عمر السابعة ، فعد ذلك اختبار حقيقي لبني البشر في انصياعهم لإرادة الله وإتباع أوامره، كون عقيدة الإمامة هي فلسفة ربانية عميقة تهدف إلى رفع مستوى الإنسان وتحقيق ما يصبو إليه الله من إقامة الحقّ والعدل على أرضه ، ومثلت إمامته تثبيتاً لقاعدة إيمانية راسخة للمتمسكين بولاية الأئمة الطاهرين (ع) خاصة في زمان أئمة يستلمون منصب الإمامة وهم حديثي السن كإمامنا علي الهادي (ع) الذي تولى الإمامة في سن الثامنة ، والإمام محمد بن الحسن (عج) الذي تولى مقاليد الإمامة في سن الخامسة من عمره .
- بعد استشهاد الإمام علي الرضا (ع) في طوس ، تولى الإمام محمد الجواد(ع) مقاليد الإمامة من بعده حيث رُوي أنّه حضر إلى مسجد رسول الله (ص) بعد موت أبيه وهو طفل ، وجاء إلى المنبر ورقا منه درجة ثم نطق ، فقال : « أنا محمد ابن علي الرضا ، أنا الجواد ، أنا العالم بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون إليه ، علم منحنا به قبل خلق الخلق أجمعين ، وبعد فناء السماوات والأرضين ، ولولا تظاهر أهل الباطل ، ودولة اهل الضلال ووثوب أهل الشك ، لقلت قولاً تعجّب منه الأوّلون والآخرون.
- يعتبر الإمام محمد الجواد (ع) أقصر أئمة أهل البيت (ع) عمراً في الحياة حيث عاش أربع وعشرين سنة وعدة أشهر ، فسبع سنين قضاها في كنف والده الإمام علي الرضا (ع) ، وخمسة عشر سنة في عهد المأمون ، وأقصرها مدة في عهد المعتصم العباسي وهي تلك السنتين التي سبقت استشهاده.
- يمكن تقسيم حياة الإمام محمد الجواد (ع) إلى مرحلتين المرحلة الأولى : عاصر فيها الأمين والمأمون ومن أهم أحداثها الحروب الطاحنة ومقتل الأمين ، وسياسة المأمون ونزعاته واتجاهاته ، أما الفترة الثانية : فهي الفترة التي عاش فيها مستلماً مقاليد الإمامة في عهدي ولدَي هارون الرشيد المأمون والمعتصم.
- تعتبر الحياة السياسية في عصر الإمام محمد الجواد(ع) لاسيما في عهد المأمون والمعتصم (ع) فترة بشعة وحرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت لعموم المسلمين ، وذلك لما فيها من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات في الداخل والخارج .
- كان الإمام محمد الجواد(ع) بحاجة مهمة إلى المحافظة على الإنجازات والمكتسبات التي حققها آباؤه الطاهرون في المجال الاجتماعي والعلمي ، وفي نفس الوقت كان بحاجة إلى مواجهة المستجدات ومتغيّرات الوضع السياسي والاجتماعي والديني بعد أن سمحت الدولة الإسلامية للتيارات المنحرفة لتعمل بحرّية في الساحة الإسلامية ، وذلك لأن الحكام المنحرفين قد استهدفوا إضعاف جبهة أهل البيت (ع) الرسالية دون مواجهة علنية سافرة.
- كان الإمام محمد الجواد(ع) بحاجة إلى سلوك يوفق فيه بين المهامّ والمسؤوليات لمنصب الإمامة من جهة، وبين الإمكانات المتاحة وما يمكن تحقيقه من انجازات علمية واجتماعية في هذا الظرف الخاص من جهة أُخرى للاقتراب من الأهداف الكبرى والنهائية التي رسمتها له الشريعة وجعلت منه قيّماً رسالياً وقائداً ربّانياً قد نذر نفسه لله تعالى ورسالته الخالدة.
- تحرك الإمام محمد الجواد (ع) في منهجه الرسالي عن طريق خطين أما الخط الأول فتمثل في توفير متطلّبات الساحة الإسلامية العامة وأهمها : إثبات جدارة خط أهل البيت(ع) للقيادة الرسالية لجمهور المسلمين بشكل عام ، وجدارته في تقلد منصب القيادة الربّانية بشكل خاص ، والردّ على محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يقوم بها الخطّ الحاكم ضد أهل البيت(ع) وأتباعهم ، ومواجهة الانحرافات والبدع والتيارات المنحرفة في الساحة الإسلامية، و التوجّه إلى حل هموم أبناء الأُمة الإسلامية ، والتمهيد العام لدولة الحق المرتقبة رغم محاولات السلطة للقضاء على قضية الإمام المهدي(ع) بشتى الطرق.
- تحرك الإمام محمد الجواد (ع) في منهجه الرسالي عن طريق خط ثاني تمثل في متطلّبات الجماعة الصالحة وتجسيد ظاهرة الإمامة المبكّرة، وذلك من خلال إثبات تخطي القوانين الطبيعية في قيادته للأمة في سن مبكرة، وتعميق البناء الثقافي والروحي والتربوي للجماعة الصالحة ,والتمهيد لإمامة الإمام الهادي(ع) المبكّرة رغم الظروف الحرجة, وإحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها لدور الغيبة الطويلة والتمهيد للإمام الغائب المنتظر بما يتناسب مع حراجة الظرف والإعداد.
- إن طول الفترة الزمنية التي عاشها الإمام محمد الجواد (ع) في عهد المأمون، لاتدل على عظم الودّ وخالص الحبّ الذي يكنه المأمون لأهل البيت (ع) وخصوصاً للإمام محمد الجواد (ع) بتعمده إلى تزويجه بابنته أم الفضل، ووفرّ له العطاء الجزيل، وإحاطته بالعناية والحماية، بقدر أنّ ذلك التكريم والتبجيل لم يكن عن إيمان من المأمون بالإمام أو إخلاصه له، وإنّما جاء لدوافع سياسية سعى لاكتسابها من تلك المصاهرة .
- إن قرار تزويج المأمون ابنته أم الفضل من الإمام محمد الجواد (ع) -بالرغم من اعتراض حاشية البلاط العباسي له ، ماجاء إلا لإدراكه أن الإمام محمد الجواد (ع) هو الوارث الحقيقي لخط الإمامة وهو القائد الشرعي لأُمة جده رسول الله (ص) ، لذلك تعامل في تخطيطه السياسي الماكر تعاملاً جادّاً بصفة أن الإمام (ع) كان قطباً مهماً من أقطاب الساحة السياسية الإسلامية وقائداً مطاعاً من قبل الطليعة الواعية في الأُمة لما يمتلكه من مكانة واحترام في نفوس قطّاعات واسعة من الأُمة .
- يجب الانتباه إلى أن مصاهرة المأمون للإمام الجواد(ع) لم تكن من أهدافها أن يكون المأمون جدّاً لامرأة وِلدها ينسبون لرسول الله(ص) !! بقدر أن من أهدافها الدنيئة: انطوائها على أغراض سياسية قد يكون ظاهرها حسناً جميلاً وباطنها يتضمّن النيّة الشريرة والمكر السيئ للإمام الجواد (ع) ، وكسب الجماهير المسلمة الموالية لأهل البيت (ع) بصفته من الموالين والمكرمين لآل الرسول بعد تزويج ابنته من الإمام الجواد (ع) ، والتمويه على الرأي العام بإظهار براءته من اغتياله للإمام علي الرضا (ع) فإنّه لو كان قاتلاً له لما زوّج ابنه من ابنته!!، وسعيه إلى وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمام الجواد (ع) يلازمه في بيته، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها إلى الجهة التي زرعته ولم يجد طريقة لذلك إلا من خلال تزويجه لابنته أُمّ الفضل منه لأنها الوحيدة التي بمقدورها الإحاطة باتّجاهاته السياسية وعلاقاته الاجتماعية، ومعرفة العناصر المتصلة به ، ولعل من أهم أسباب تلك المصاهرة وأكثرها خطورة على عقيدة الإمامة هو جرّ الإمام محمد الجواد (ع) إلى ميادين اللهو واللعب ساعياً لهدم الصورة الكاملة للإمامة والعصمة التي يراها شيعة أهل البيت(ع) في أئمتهم والتي خفق في تحقيقها من الأساس.
- سعى الحكام العباسيون إلى تسقيط صورة أئمة أهل البيت (ع) -كما فعل المأمون العباسي في محاولة إلى تسقيط الإمام علي الرضا (ع) ، لذلك جاء الإمام محمد الجواد(ع) لإثبات جدارته أمام الرأي العام بقيادته للأمة، وإن كان ذلك يكلّفه حياته فيما بعد; لأن بقاء هذا الخط الربّاني وإثبات حقّانية خط أهل البيت(ع) ورسالته الربانية هما فوق كل شيء ، ومن هنا كان لابدّ للإمام الجواد(ع) أن يتصدّى للردّ على كل هذه الأسئلة ، ويتحدّى كل القوى السياسية والعلمية التي تنطوي عليها الساحة الإسلامية ليتسنى له القيام بسائر مهامّه الرسالية الأُخرى في الحقلين العام والخاص معاً.
- من الوسائل المهمة التي انتهجها الإمام محمد الجواد(ع) في إثبات جدارته في قيادة الأُمة من بعد أبيه وهو في سن صغيرة هي الحوارات العلمية التي دارت بينه وبين علماء المسلمين في المجالس العامة للخلفاء ورده على الأسئلة الموجّهة إليه في خطوة موفّقة لإثبات أحقيّة خط أهل البيت(ع) ،وإثبات إمامته وجدارته العلمية وشخصيته القيادية لعامّة المسلمين ، بحيث أتم الحجة عليهم وعلى الخلفاء والعلماء المحيطين بهم وهي في نفس الوقت تشكّل تحدّياً عملياً للخلفاء وعلمائهم الذين كانوا يشكّلون الرصيد العلمي والخلفية الثقافية والشرعية.