الجزء الثالث
✳ ظهرت تنبؤات النظرة المستقبلية للإمام علي الهادي(ع) من موقفه مع القائد التركي الذي جاء إلى المدنية المنورة أيام الواثق ، حينما وصل ركبه إلى سامراء ، فقابل يحيي ابن هرثمة ذلك القائد – الذي أخبره الإمام علي الهادي (ع) عن اسمه التركي الذي لايعرفه أحد غيره ، وهو وصيف التركي الذي يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ، وممّا قاله وصيف التركي ليحيى ابن هرثمة : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل -يقصد به الإمام الهادي(ع) شعرة لا يكون المطالب بها غيري!!.
✳ لعل من أهم الأسباب التي جعلت من المتوكل العباسي يحتجب عن الإمام علي الهادي(ع) يوم وردوده لسامراء ، ويأمر بإنزاله في خان الصعاليك هي الصورة الناصعة التي نقلها يحيي ابن هرثمة عنه وتبين فضله وكرامته ، ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مما دعاه إلى زيادة الضغط على الإمام علي الهادي (ع) ، وسعى للتضييق عليه ، لكونه يحمل نصباً وحقداً لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي(ع) بشكل خاص.
✳ تناقض واضح بين إظهار الإكرام والتبجيل الذي ادّعاه المتوكل العباسي للإمام الهادي (ع) في رسالته التي أرسلها له في المدنية المنورة ، وبين ما أمر به من حجبه عنه في يوم وروده إلى سامراء ، بالإضافة إلى أمره إنزاله في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك ، ولعل هذا التناقض جاء نتيجة حقده وبغضه للإمام (ع) ، ومعرفته بنفاذ شخصيته عند الناس حتى على الولاة والقواد في جيشه ، مما زاد من حقه ونصبه له ، وخوفه من فقد منزلته ومكانته عندهم.
✳ سعى المتوكل العباسي لتحقير الإمام علي الهادي (ع) وإذلاله متى سنحت له الفرصة المواتية لذلك ، وبدأها بفرصة وروده إلى سامراء فحجبه عنه يومها ، ثم أمر بإنزاله في خان الصعاليك ، وهو دليل قاطع على مستوى الحقد الدفين الذي يضمره المتوكل في قلبه تجاه الإمام الهادي(ع) ، لكنه حاول قدر الإمكان إخفاء على ما يدور في قرارة نفسه ، ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار للإمام الهادي (ع) فأنتقل إليها ، مع العلم بأن المتوكل العباسي هو من استدعاه إلى سامراء ، وكان على علم مسبق بقدومه إليها ، وكان من المفترض أن يهيئ المكان اللائق لإقامته ، ويكون من أول المستقبلين له .
✳ لم يجد المتوكل العباسي بداً من استدعاء الإمام علي الهادي (ع)إلى سامراء ، وحاول لأكثر مرّة إفحام الإمام الهادي (ع) -و التنكّر له في محاولة يائسة لتسقيطه أمام الآخرين ، لكن كل محاولاته بائت بالفشل ، كذلك لم تفلح كل سبله في التعتيم الإعلامي على فضائل الإمام(ع) وإخفاء مناقبه -بالرغم من اضطراره إلى الالتجاء إليه في كثير من المواقف حينما يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة التي يبتلى بها الناس.
✳ استخدم المتوكل العباسي أنواع المكر والدهاء وفنون التنكيل والقتل للنيل من شيعة الإمام الهادي (ع) ومريديه ، فحاصر آل أبي طالب ولاحق شيعتهم وشردهم ، واستخدم فنون الترهيب لمنع الموالين من زيارة قبر الإمام الحسين (ع) ، بالإضافة إلى محاولاته المتكررة لهدم قبر الإمام الحسين (ع) ، ومنها حادثة الحائر المشهورة الذي حاول فيها طمس آثاره والحيلولة دون وصول الموالين له ، لذلك أعتبرت حقبة المتوكل العباسي أشد الفترات التاريخية التي واجهت أئمة أهل البيت (ع) وشيعتهم في ذلك الزمان.
✳ بالرغم من إلمام الإمام علي الهادي (ع) بالإجراءات الظالمة التي انتهجها المتوكل العباسي للحيلولة دون زيارة قبر جده الإمام الحسين (ع) من قتل وتعذيب وفرض للجزية وقطع للإطراف وغيرها ، لكن لم نجد في التاريخ أن الإمام الهادي (ع) طلب من شيعته التخفيف أو الكف عن زيارة الإمام الحسين (ع) بل شجعهم على ذلك ، وهذا مصداق للحوار الذي جرى بين الإمام جعفر الصادق(ع) وبين ابن بكير الذي شكى له خوفه من السطان عند زيارته للإمام الحسين (ع)، فقال له الإمام جعفر الصادق (ع) : يا بن بكير!!.. أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً ؟.. أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه ، وكان محدّثه الحسين (ع) تحت العرش ، وآمنه الله من أفزاع القيامة ، يفزع الناس ولا يفزع ، فإن فزع وقرته الملائكة ، وسكّنت قلبه بالبشارة.
✳ سطر العالم الرباني يعقوب ابن السكيت موقفاً رسالياً خالداً في الجهر بكلمة الحق والثبات على الولاء لأئمة أهل البيت(ع) ، وذلك حينما نظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد ، فقال لابن السكيت : من أحبّ إليك : هما أو الحسن والحسين؟ فقال : قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ; وقيل : أمر بسلّ لسانه من قفاه حتى استشهد رضوان الله عليه في سنة 244 هـ .
✳ من دلائل عظمة الإمام علي الهادي(ع) وإلمامه بخفايا القرآن الكريم واستنباط أحكامه إنّ نصرانياً فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم في حينه ، فقال ابن الأكثم: قد هدم ايمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، وقال آخرون غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب الى الإمام الهادي(ع) ويسأل عن ذلك ، فلما قرأ الكتاب كتب له : يُضرب حتى يموت ، فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهائه حكمه ، وطالبوا الإمام (ع) بالحجة من الكتاب والسنة فكتب(ع): (فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين * فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)، فأمر المتوكل بالنصراني فضُرب حتى مات .
✳ واجه المتوكل العباسي مواقف شخصية اضطرته إلى اللجوء للإمام علي الهادي (ع) لحل معضلاتها ، وهذا ما ينقله التاريخ عن المتوكل أنه نذر أن يتصدّق بمال كثير ، فاختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ، فأشار عليه أحد ندمائه بسؤال الإمام علي (ع) قائلاً: ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه؟ فقال له المتوكل: من تعني؟ ويحك! فقال له: ابن الرضا ، فقال له: وهو يحسن من هذا شيئاً؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة ، فبعث من يسأل له ذلك من الإمام (ع) ، فأجابه : بأن الكثير ثمانون ، فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب الإمام (ع) قائلاً: ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، فعددناها فكانت ثمانين موطناً.
✳ من جملة القضايا التي حاول المتوكل العباسي إحراج الإمام علي الهادي (ع) فأظهرت كرامته عند الله قضية امرأة كاذبة تُدعى أنها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (ص) !! أفترت إنّ رسول الله(ص) مسح عليها ، وسأل الله أن يردّ عليها شبابها في كل أربعين سنة !! فطلب المتوكل من الطالبيين إلقاء الحجة عليها ، فلم يفلح أحد في محاججتها ، فطلبوا إحضار الإمام علي الهادي(ع) ، فقال له المتوكل : هي طلبت حجة يحجونها بها ، فقال الإمام علي الهادي(ع) : فههنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال المتوكل : وماهي؟ قال: لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها إلى السباع ، فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فأدعت أن الإمام (ع) يريد بذلك قتلها ، قال الإمام (ع) : فههنا جماعة ولد الحسن والحسين(ع) فأنزل من شئت منهم ، فتغيرت وجوههم !! فأشار عليه بعض المبغضين: أن يكون الإمام (ع) هو ذلك الشخص الذي يُزله للسباع ، فأتي بسلّم وفتح عن السباع ، ونزل الإمام علي الهادي (ع) إليها ، وكانت ستة من الأسود ، فلما دخل وجلس جاءت الأسود إليه رمت بأنفسها بين يديه ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه ، فصار يمسح على رأس كل واحد منها، ثم أشار إليها بيده إلى الاعتزال حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه ، فأمر المتوكل العباسي أن يخرج من الساحة قبل أن ينتشر خبر كرامته بين الناس.