الجزء الثاني
✳ فشلت خطة المعتصم العباسي التي حاكها ضد الإمام علي الهادي (ع) إلى أن مات وهلك ، وأنتقلت السلطة ليد الواثق العباسي التي تعد فترة حكمه أقل الفترات الزمنية التي لم يلق فيها الإمام تضييقاً قوياً ، و استمرت مدة حكمه حوالي خمس سنين وأشهر .
✳ موقف عظيم للإمام علي الهادي (ع) حدث أيام حكم الواثق يُظهر فضله واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وذلك حينما أغار الأعراب من بني سليم على المدينة المنورة سنة 230 هـ ، ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون ، فأمر الإمام الهادي (ع) أصحابه بالخروج لرؤية الجيش وكان من ضمنهم أبا هاشم الجعفري ، يقول : فمرّ بنا تركي من قواد الجيش فكلّمه الإمام علي الهادي (ع) بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال (أبو هاشم) فحلّفت التركي وقلت له : ما قال لك الرجل؟ فقال: هذا نبيّ؟ قلت: ليس هذا بنبيّ ، قال: دعاني باسم سُمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة!!.
✳ لم يكن خروج الإمام علي الهادي (ع) في طلب جيش بغا التركي في المدينة المنورة إلا لهدف خاص ورؤية عسكرية مستقبلية تمثلت في كسب قائد من قواد الجيش ليحمل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمام(ع) إلى قائده بغا التركي ، فأحدث هذا الموقف تغييراً جذرياً في رؤيته لشخصية الإمام علي الهادي(ع) في المستقبل ، بالإضافة إلى مانتج عن ذلك في موقف لبغا التركي مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل للمعتصم فتمرّد بغا على أمر الواثق ، ولم يلق هذا الطالبي إلى السباع ، ومن هنا قال المسعودي عنه في كتاباته : كان بغا كثير التعطّف والبر على الطالبيين.
✳ احتدمت حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الأُسرة العباسية الحاكمة ، وكان الإمام الهادي(ع) يتابع تلك التطورات السياسية ويرصد أحداثها بدقة ، بدليل الرواية التي تُنقل عن خيران الخادم قال : قدمت على الإمام علي الهادي(ع) في المدينة المنورة ، فقال لي : ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي : إن أهل المدينة يقولون أنّه مات ، فلما أن قال لي : (الناس)، علمت أنه هو ، فقال الإمام (ع) : يا خيران ، مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقد قتل ابن الزيات ، فقلت : متى جعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيّام!!.
✳ انتقلت السلطة إلى جعفر المتوكل العباسي الذي عُرف ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت(ع) وشيعتهم ومواليهم ، وهذا مايؤكده السيوطي بقوله : أنه كان معروفاً بالتعصّب ، فتألّم المسلمون من ذلك ، فكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، لذا عدة فترة المتوكل العباسي من أشد الفترات الزمنية التي واجهها الإمام الهادي (ع) في حياته ، والتي استمرت قرابة خمسة عشر سنة.
✳ لم يكن المتوكل العباسي راضياً عن تمركز ووجود الإمام علي الهادي (ع) في المدنية المنورة ، لذا تحين الفرصة لإظهار حقده الدفين له ونقله إلى مسقط رأسه في سامراء ، ولعل من أهم الأسباب الرئيسية في أتخاذه لهذا القرار وإشخاص الإمام علي الهادي (ع) إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين بريحة العباسي ، وقيل اسمه «تريخه»، وقيل «بريمة»، الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت(ع) بحيث كانت وشاياته متتابعة ومتكرّرة ، فكتب إلى المتوكل رسالة قال فيها: «إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير» -بالرغم من أن المتوكل العباسي أظهر في رسالته للإمام الهادي (ع) عدم أكتراثه لتك الوشايات وأمر بعزل بريحة عن إمامة الحرمين.
✳ أكبر دليل على عداء المتوكل العباسي للإمام علي الهادي (ع) هو أول قرار سياسي أتخذه بعد استقراره على كرسي الحكم -وتحديداً بعد سنتين من بدايته بإشخاص الإمام علي الهادي(ع) إلى مدينة سامراء ، حيث أمر يحيى ابن هرثمة بالذهاب إلى المدينة المنورة وتفتيش داره وإشخاصه إليها ، وهذا القرار جاء نتيجة خشيته من تعاظم أمر الإمام (ع) ، ، وعزلاً له عن شيعته ومحبيه ، ومنعاً من اتصال الجماعة الصالحة به ، كما يمكنه ذلك القرار من وضعه تحت الإقامة والمراقبة الشديدة ، لاسيما أن سامراء مدينة أسسها المعتصم العباسي وتسكنها غالبية تركية ، ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .
✳ استخدم المتوكل العباسي مكره ودهائه في تنفيذ خطته في إشخاص الإمام علي الهادي (ع) إلى سامراء فأرسل مع مندوبه يحي ابن هرثمه رسالة إلى الإمام (ع) أظهر له معرفته بقدره ومراعاته لقرابتك ، وتخييره في السفر إليه ، وهذا ما يقرأ من نص رسالته التي جاء فيها : وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك
، وان أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند مشيعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين.
✳ أعتقد المتوكل العباسي ومندوبه يحي بن هرثمة أن تنفيذ قرار إشخاص الإمام الهادي(ع) إلى سامراء قراراً سهلاً ، لكنهما لم يدركا المكانة الرفيعة للإمام علي الهادي (ع) بين أهل المدينة ، فلما عَلِم الناس أن يحيى أمر بإشخاصه إلى سامراء اضطربت المدينة وضج أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال : دخلت المدينة فضج أهلها ضجيجاً عظيماً ، وقامت الدنيا على ساق ، وهذا إن دل فإنما يدل على قوة تأثير الإمام علي الهادي (ع) وإنشداد الناس إليه ، وتعلقهم به كونه يجسّد جده النبي (ص) والرسالة المحمدية في نهجه وسلوكه.
✳ تغيرت النظرة التي يحملها يحي ابن هرثمة عن الإمام علي الهادي خاصة أنه كان يعتقد أنه شخص عدائي يهدف للإطاحة بالسلطة ، لكن حينما قدم للمدينة المنورة وفتش داره فلم يجد فيها غير المصاحف وكتب العلم عرِف مقدار زهد الإمام وعزوفه عن الدنيا ، فتغيرت نظرته إليه وحاول قدر الإمكان إحسان عِشرة الإمام(ع) ، بالإضافة إلى ماشهده بعينيه من كرامات وهو بصحبته في طريق سفرهما إلى سامراء أرشدته إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وأوضحت له حجم الجريمة التي أرتكبها في إزعاجه وتفتيش داره والتجسّس عليه.
✳ مما يدل على عِظم مكانة الإمام علي الهادي(ع) عند الله أن كراماته تنقل بلسان أعدائه ، فهذا يحي بن هرثمة ينقل مجموعة من الكرامات التي شاهدها بأم عينيه وهو في طريق صحبته له لسامراء ، وينقل عنه أنه قال بلسانه : أنا نزلنا منزلاً لا ماء فيه، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، فعدل علي الهادي(ع) عن الطريق وسرنا فأشرفنا على واد كأنه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر، ثم تزودنا وأرتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين ، وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ، تبحث عن هاشمي ، فدللناها على علي الهادي (ع) ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ أنها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة!!.