الجزء الأول
◾ وِلد الإمام علي بن محمد الهادي (ع) في قرية صريا التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال ، وأمه يقال لها سمانة المغربية وعرفت باُمّ الفضل ، واختلفت الروايات في ولادة الإمام علي بن محمد الهادي (ع) سواء كان في يوم وشهر وسنة ولادته ، أمّا الرأي الأول فقال : أنّها في الثاني عشر أو الثالث عشر أو الرابع عشر ومائتين من الهجرة ، وأمّا اليوم فقد قالوا في الثاني ، أو الثالث ، أو الثالث عشر من شهر رجب ، فالقول بمولده في رجب قد يُعاضد بروايتين منسوبة إلى الإمام أبي محمّد العسكري (ع)، وإلى الناحية المقدّسة ، أما الرأي الثاني : فقيل أنه ولد في النصف ، أو السابع والعشرين ، أو في ليلة بقيت من ذيالحجّة ، أو في يوم عرفة ، وهو المشهور لا سيّما في النصف منه ، وقد قال به عدد المحدّثين والمؤرّخين كالكلينيّ والمفيد والطوسيّ واللّه أعلم.
◾ بشرّ الرسول (ص) بولادة الإمام علي الهادي(ع) كما بشر بولادة آبائه الطاهرين في حديث طويل في كتاب عيون أخبار الرضا(ع) بقوله:« ... وأن الله ركب في صلبه-إشارة إلى الإمام الجواد (ع) نطفة لا باغية ولا طاغية ، بارّة مباركة ، طيبة طاهرة ، سماها عنده علي بن محمد ، فألبسها السكينة والوقار ، وأودعها العلوم ، وكل سرّ مكتوم ، من كفيه ، وفي صدره شيء أنبأه به ، وحذره من عدوه...»، وكذلك في الحديث الذي يُنقل في كتاب عيون أخبار الرضا (ع) ، وإكمال الدين وإتمام النعمة في حديث لوح فاطمة الزهراء (ع) عن جابر الأنصاري (رض) حيث قال : دخلت على مولاتي فاطمـة (ع)... فإذا بيديها صحيفـة بيضاء مـن درّة ، فقلت لها: يا سيّدة النساء!! ما هذه الصحيفة التي أراها معك؟ قالت: فيها أسماء الأئمّة من ولـدي... ومن نص الحديث : أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الأمين أُمّه جاريـة اسمها سوسن.
◾ كنّى الإمام علي الهادي(ع) بأبي الحسن ، وتمييزاً له عن الإمامين الكاظم والرضا(ع) يقال له أبو الحسن الثالث ، أمّا ألقابه فهي : الهادي ، والنقيّ ، وهما أشهر ألقابه ، والمرتضى ، والفتّاح والناصح ، والمتوكل ، وقد منُع شيعته من أن ينادوه به لأنّ الخليفة العباسي كان يُلقّب به ، وفي المناقب ذكر الألقاب التالية : النجيب ، الهادي ، المرتضى ، النقي ، العالم ، الفقيه ، الأمين ، المؤتَمن ، الطيب ، العسكري ، وقد عرف هو وابنه بالعسكريين(ع).
◾ تُصنف أول حقبة زمنية في حياة الإمام علي الهادي (ع) بالحقبة التي عاشها مع أبيه الإمام محمد بن علي الجواد(ع) عاصر فيها المأمون والمعتصم العباسيين ، وهي بين سنة (212 هـ -220 هـ ) ويبلغ أقصاها ثمان سنوات تقريباً ، وهي أقلّ من عقد زمني واحد .
◾ تُصنف ثاني حقبة زمنية في حياة الإمام علي الهادي (ع) بالحقبة الزمنية التي بدأها من توليه لمنصب الإمامة حتى استشهاده وهي مابين سنة (220هــ -254 هـ ) وهي الفترة الزمنية الأطول في حياته التي تزيد عن ثلاثة عقود ، عاصر خلالها ستة من ملوك الدولة العباسية وهم : المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز ، واستشهد في أيام حكم المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين وأشهر .
◾ تسلم الإمام علي بن محمد الهادي (ع) منصب الإمامة في سن الثامنة بعد استشهاد أبيه الإمام محمد الجواد (ع) -الذي تولى هو الآخر منصب الإمامة في عمر السابعة ، وهي معجزة إلهية أخرى تمثل نظرة ربانية عميقة يُهدف من خلالها إلى تثبيت القاعدة الإيمانية الراسخة في التمسك بولاية الأئمة الطاهرين(ع) ، وإنصياع البشر لإدارة الله التي لا تقاس بعقول البشر وإرادتهم ، وهي مقدمة لترسيخ عقيدة ولائية مستقبلية كبرى تتمثل في تقليد منصب الإمامة لإمامنا القائم محمد بن الحسن (عج) الذي سيتولى مقاليدها في سن الخامسة من عمره.
◾ لم يكن المعتصم العباسي غافلاً عن مستقبل الإمام علي الهادي (ع) بعد وفاة أبيه الإمام محمد الجواد (ع) حتى وهو في سن مبكرة -لاسيما وهو يدرك أنه المرشح الأول لخلافة أبيه في الإمامة ، آخذاً في الحسبان التجربة المريرة التي عاشها مع الإمام محمد الجواد(ع) وهو في سن مبكرة الذي تحدّى فيها كبار العلماء وتفوق عليهم ، فبادر في محاولة يائسة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام علي الهادي(ع) وسطوع فضله عند الخاص والعام ، وذلك عن طريقين الأول: إظهار اهتمامه المبكر بالامام الهادي(ع)من أجل تطويق تحركه وعزله عن شيعته ومريديه ، والثاني : مبادرته لتعليم الإمام للتعتيم على علم الإمام الهادي(ع) وهو في هذا العمر السن المبكرة ، ظناً منه أن هذه الطريقة ستضمن له نَسب ما سيصدر منه من علم ومعرفة إلى معلّمه ومربّيه!!.
◾ أظهر المعتصم العباسي بعد اغتيال الإمام محمد الجواد (ع) اهتمامه المبكر بالإمام علي الهادي (ع) من خلال خطة خبيثة بدأت بإشخاص مندوبه الخاص عمر بن الفرج إلى المدينة المنورة ليختار معلماً خاصاً للإمام علي الهادي(ع) البالغ من العمر آنذاك سبع سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يختار له معلماً معروفاً بالنصب والإنحراف عن خط أهل البيت (ع) ليغذيه ببغضهم وعدائهم .
◾ لم يجد مندوب السلطة العباسية عمر بن الفرج في المدينة المنورة -بعد مشورة واليها آنذاك أفضل من شخصية (الجنيدي) ليكون معلماً خاصاً للإمام علي الهادي (ع) الذي عُرف في المدنية المنورة ببغضه وعدائه للعلويين والهاشميين ، وعيّن له راتباً شهرياً نظير ذلك ، وعهد إليه أن يمنع شيعته ومريديه من زيارته أو الاتصال به.
◾ أعتقد المعتصم العباسي أن خطته الخبيثة تسير في طريق النجاح خاصة بعد تعيين شخصية ناصيبة كالجنيدي معلماً خاصاً للإمام علي الهادي (ع) معتقداً في نفس الوقت أن بمقدور الجنيدي تغيير معتقدات وتوجهات الإمام علي الهادي(ع) ، لكن المفاجئة التي لم يتوقعها المعتصم أن الجنيدي نفسه ذُهل مما رآه من حدَّة ذكاء الإمام علي الهادي(ع) وهو في هذه السن المبكرة ، حيث يُنقل أن محمد بن جعفر إلتقى بالجنيدي في المدنية المنورة فقال له : ما حال هذا الصبي الذي تؤدبه -يقصد بذلك الإمام علي الهادي(ع) ؟ فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول : أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ؟ أنشدك بالله ، هل تعرف بالمدينة من هو أعرف مني بالأدب والعلم ؟ ، قال : لا ، فقال الجنيدي: إني والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أني قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس اني اُعلمه ، وأنا والله أتعلّم منه!!.
◾ استطاع الإمام علي الهادي(ع) وهو في سنه المبكرة قلب موازين الخطة الخبيثة التي رسمها المعتصم العباسي ، وقلب السحر على الساحر ، بحيث أصبح المعلم الناصبي الذي يحمل ويراد منه تعليم النصب والعداء لأهل البيت(ع) تلميذاً ولائياً متفانياً في مولاتهم ، وهذا ماينقله التاريخ عن محمد بن جعفر حينما ألتقى بالجنيدي بعد فترة زمنية أخرى ، فقال له : ما حال هذا الصبي -يقصد بذلك الإمام علي الهادي(ع) ؟ فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل من برأه الله تعالى ، وإنه لربما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول: أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصح منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود، إنّه حافظ القرآن من أوله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله ، وأضاف الجنيدي قائلاً: هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود ، فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير؟ يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت (ع) ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة لآل محمد ، لأن المعتصم نسي قول الله تعالى : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }.