( الجزء الثاني )
✳ استطاع الإمام محمد الباقر (ع) أن يستغل الظروف السياسية المتهالكة في عهد بني أمية فقام بفتح بوابة المدرسية الولائية لأهل البيت(ع)على مصراعيها لتخرج مئات العلماء الأفاضل فكان ذلك مصداقاً لبشارة الرسول الأعظم (ص) لجابر بن عبد الله الأنصاري حينما قال له: يا جابر يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين (ع) اسمه كاسمي ، يبقر العلم بقراً ، فإذا رأيته فأقرأه مني السلام.
✳ من تجليات حكمة الإمام محمد الباقر(ع) هو قدرته على كسر حالة الجمود السائدة للوسط الثقافي في المجتمعات الإسلامية المتمثلة في العصبية القبلية المدمرة والبعد عن الأخلاق النبيلة للدين الإسلامي المحمدي فسعى لنشر منائر العلم وصروح الفكر ، واتجه صوب العلم ومنابعه متفرغاً له في عزلته بمدينة جده المصطفى(ص) ، لتصبح المدينة الحصن المنيع للإمام عظيم عُد باعثاً وقائداً وناهضاً لنشر الثقافة الإسلامية الحقة التي يخف إليه العلماء من أعيان الأمة وسائر الأقطار للاستفسار والشرح والتحصيل من منهله العذب .
✳ وقف الإمام محمد الباقر(ع) في مواجهة حملة تشويش الممنهجة ضد العقيدة الإسلامية التي قادها المشككين الذين زرعوا من خلالها الشكوك وأدخلوا الأوهام إلى قلوب المسلمين ، فقام الإمام محمد الباقر (ع) بالإجابة على أدق المسائل وأعقدها وكشف للعيان الغطاء عن أهم مسائل التوحيد فشرحها ، وفند ما أثير حولها من أوهام وشكوك ، وبين عجز العقول عن إدراك حقيقة الله وحذر ، ونهى عن الكلام في ذات الله وصفاته وبين واقع التوحيد ومواطن الشك والجحود.
✳ أفرد الإمام محمد الباقر (ع)جزءاً كبيراً من فيوض علومه للمنهج القرآني الذي ركز من جهة على قراءته وترتيله ، ومحاربة المحرفين الذين يؤولون آياته حسب أهوائهم من جهة أخرى ، مؤكداً على أن بسملة القرآن تمثل جزءاً لا يتجزأ منه ، منتهجاً في ذلك المنهج التفسيري القرآني المعتمد على مآثر النبي (ص)وأئمة الهدى من آل محمد (ع).
✳ لقد جهد الإمام محمد الباقر(ع) على نشر الفقه الإسلامي وشرحه وتبيانه بصورة إيجابية تفصيلية في زمن كانت الحكومات تهمل الشؤون الدينية إهمالاً تاماً ، فواجه بمنهجه الفقهي الأصيل فئة القدرية والمعتزلة والمرجئة والخوارج التي أفسد كثير منهم على المسلمين دينهم وعقائدهم ، فناظرهم ورد إرهاصاتهم وأبطل مزاعمهم.
✳ يعد الإمام محمد الباقر(ع) فاتق باب علم الأصول وسبر أغواره ، بل يعتبر أسبق السابقين في تأسيس هذا العلم كون المجتهد لا يتمكن من الفتوى إلا بعد أن وصوله إلى درجة الاجتهاد ، لذلك أرسى الإمام الباقر(ع) قواعده المعروفة : كقاعدة التجاوز والفراغ و نفي الضرر و الاستصحاب وتعارض الخبر وعلاجه والشهرة ، وبين مبادئه ومنها الشهرة وموافقة الكتاب والسنة والترجيح بالصفات .
✳ أرتكز دور حركة الإصلاح الي انتهجه الإمام محمد الباقر(ع)على اتجاهين متزامنين ، أما الاتجاه الأول فتمثل في التحرك في أوساط الاُمة لإعادتهم الى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود ، أما الاتجاه الثاني فتمثل في بناء المجتمع الإيماني ليقوم بدوره في إصلاح الأوضاع العامة للاُمة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيت (ع) بما ينسجم مع القرآن الكريم وروايات النبي(ص) وأهل بيته الأطهار (ع).
✳ يستدل من سيرة محمد الإمام الباقر (ع) على منهج السلم والتعايش والانفتاح الذي اتبعه مع عامة المسلمين وجمهورهم والذين ليس لهم عداء مع أهل البيت (ع)، وإن كانوا لا يرون حق الولاية والإمامة وهو مانجده في علاقاته الواسعة مع جماعات وشرائح اجتماعية متعددة منهم ، وتشجيعه على المشاركة في النشاطات العامة التي تصب في مصلحة الإسلام ، بالمقابل كانت القطيعة التي مارسها بدرجاتها المختلفة هي السمة الغالبة مع الناصبين العداء لأهل البيت(ع) ، ويلحق بهم مقاطعة أصحاب البدع والغلاة ، وأعوان النظام الجائر ممّن أبغض أهل البيت (ع) وعاداهم.
✳ دل الإمام محمد الباقر (ع) أتباعه على أسلوب تربوي ومنهج للتعامل يتمثل في كتمان الأسرار سواء كانت ممّا يتعلق بفضائل ومكارم أهل البيت (ع( التي لا تتحملها عقول المخالفين ، أو ممّا يتعلق بتنظيم مصالح شيعتهم ، وهو مانستشفه من تكتم الإمام (ع) على مواقفه المهمة والحساسة ، كموقفه من ثورة أخيه زيد فاكتفى بمدح شخصية زيد ليوجه الأنظار بصورة غير مباشرة له وإلى مواقفه المستقبلية.
✳ أسدى الإمام الباقر(ع) أسمى خدمة للاقتصاد العالم الإسلامي ، حينما حرّر تبعيتها للإمبراطورية الرومية، حينما أشار على عبد الملك بن مروان بصك الدراهم والدنانير حاملاً لنقش التوحيد و ذكر رسول الله (ص) ، ومعادلتها بالأوزان والمثاقيل المتداولة ، فضمن بذلك استقلاليته وقطع الصلة بينه وبين الاقتصاد الروماني.
✳ إن من تجليات مراد مقولة الإمام الباقر (ع) في حق عمر بن عبدالعزيز : تبكيه أهل الأرض وتلعنه أهل السماء ، هو تبيان الجوهر الحقيقي في تطبيق وأحقاق العدل على الذات قبل الناس ، فالمسألة ليست متعلقة بسعيه لإضفاء سمة العدل بين الناس بقدر أنه لم يبادر برفع الظلامة الحقيقية التي لحقت بالأمة في إرجاع نصاب الحق والعدل لأهله الحقيقيين من أئمة آل أهل البيت(ع).
✳ تأثر البناء الشخصي والإنساني للإمام محمد الباقر (ع) بشكل مباشر بصبغة جده الإمام الحسين (ع) الذي عاش كنفه منذ ولادته حتى الرابعة من عمره الشريف فشاهد بأم عينيه ملحمة عاشوراء وبشاعتها وواكب مسيرة سبي عائلته للكوفة والشام حيث بقيت هذه الأحداث الفجيعة شاخصة في مخيلته طوال مسيرة حياته .
✳ يعتبر الإمام محمد الباقر (ع) من اوائل الأئمة المقيمين للشعائر الحسينية حينما أقام وأحيى مجالس العزاء في منزله ، وتجسّدت بمظاهر الحزن وتشجيع الشعراء على ونظم وإلقاء الشعر في مصاب سيد الشهداء (ع) والبكاء عليه وعلى الشهداء من أهله وأصحابه وذلك من أجل تجذير الرابطة العاطفية الولائية في المشاعر والانتماء له ، وطالماً كان يسمع وهو يردد(ع) : من ذرفت عيناه على مصاب الحسين ولو مثل البعوضة غفر الله له ذنوبه.
✳ حث الإمام محمد الباقر (ع) محبّيه ومواليه على زيارة الإمام الحسين (ع) والاهتمام بها من أجل تعميق الارتباط به شخصاً ومنهجاً ، واستلهام روح الثورة منه ، ومعاهدته على الاستمرار على نهجه ، وأكّد (ع) على أن حب أهل البيت (ع) مقترن بزيارة قبر الحسين(ع) وطالماً سمع يردد(ع) : « مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي ، وزيارته مفروضة على من أقرّ للحسين بالإمامة ، من كان لنا محبّاً فليرغب في زيارة قبر الحسين(ع) ، فمن كان للحسين زوّاراً عرفناه بالحب لنا أهل البيت(ع) .
✳ شدد الإمام محمد الباقر (ع) على تزكية النفس وترويضها عبر مقومات تحكيم العقل وتبعية الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية ، واستشعار رقابته والتوجه لليوم الآخر ، ودل البشر على منهجه الولائي لتزكية النفس ورقيها المتمثل في الارتباط الدائم بالله تعالى و الإقرار بالذنب والتوبة و الحذر من التورّط بالذنوب ، و تعميق الحياء الداخلي في النفس ، و كسر الأُلفة بين الانسان وسلوكه الجاهلي ، وإزالة الحاجز النفسي بين الانسان والسلوك السليم.
✳ دل الإمام محمد الباقر(ع) المجتمع الإيماني على أسس العلاقات الاجتماعية المتينة وجملها في قاعدة الحب في الله والبغض فيه ، وإخلاص المودة و الإيثار من أجل حفظ حقوق الإخوان والعمل بالتقية ، والتكافل الاجتماعي والتناصر والتآزر بين المؤمنين.
✳ أولى الإمام محمد الباقر (ع) عناية خاصة بالأسرة التي هي المؤسسة الأولى والأساسية من بين المؤسسات الاجتماعية المتعددة ، فأرشدها ابتداء باختيار شريك الحياة المناسب ووضح الإمام (ع) واجبات الزوجين والأبناء ، ووضع برنامجاً للتربية الأسرية في مختلف مراحل حياة الأطفال من الطفولة المبكرة حتى بلوغ سن التكليف والرشد.
✳ قد يستشكل أحدهم على من يصف الإمام محمد الباقر(ع) بأنه ذلك العالم الذي استنبط العلم وعرف فروعه وشق عيون المعرفة وأظهر مخابئ المعارف ومكامنه وأنه بحق عارف بحقائق الأحكام والحكم ، ولطائف مالا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ، أو بمن وصفه بباقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه وباثه بين الناس وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه حتى سمي باقراً له فبقره بقراً ، لكن المفاجئة الحقيقية لذلك المعترض أن جملة تلك الأوصاف التي أُطلقت على الإمام محمد بن علي الباقر (ع) جاءت على ألسنة بشر عُرفوا بمعاداتهم له !!.