الجزء الثاني
✳ إن من أهم المقدَّمات الممهِّدة لقرار التوبة النصوح في شهر رجب هي : الاعتراف بالذنب والانتباه وعدم الغفلة ومحاسبة النفس ، وأن لا تأخذ المؤمن العزّة بالإثم ،وتجنّب قرناء السوء ، فإذا تخطى المؤمن هذه المراحل والمقدمات ، عندئذ يتأهَّل المؤمن لمقام التوبة النصوح.
✳ يعتمد قرار التوبة النصوح في شهر رجب على عدة أركان وهي: الندم و الخروج من تبعات الذنوب بحيث يؤدِّي إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه ، و العزم على عدم العود، وأخيراً الاستغفار بمعناه الحقيقي الذي أشار إليه أمير المؤمنين(ع).
✳ إذا كنا نمتلك سنة تحتوي على أثني عشر شهراً نعيش معظمها مملوكين للدنيا وملذاتها ، فهل يصعب أن نقف حالات من حالات الاستراحة لنتجرد عن ملذاتنا الدنيوية في ثلاث أشهر جعلها الله فرصة للتغيير والبناء تمكننا من تعويض ما فاتنا من أعمال الخير والعبادة ؟!!.
✳ حينما يعود المؤمن نفسه بمناداة الله في دبر كل صلاة في شهر رجب ، حتما سيصل إلى حالة من حالات اليقين لكي يكون من المختصين بالنداء الذي يخرج من بطنان العرش يوم القيامة والذي روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش : أين الرجبيون ؟ ..فيقوم اُناسٌ يضيئ وجوههم لأهل الجمع على رؤوسهم تيجان الملك ، مكلّلة بالدرّ والياقوت ، مع كلِّ واحدٍ منهم ألف ملك عن يمينه وألف ملك عن يساره ، ويقولون : هنيئاً لك كرامة الله عزوجلَّ يا عبدالله!. . فيأتي النّداء من عند الله جلَّ جلاله : عبادي وإمائي !.. وعزتي وجلالي لأكرمنَّ مثواكم ، ولأجزلنَّ عطاياكم ، ولأوتينَّكم من الجنَّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين .
✳ أسلوب ممنهج يضعه الله أمام المؤمن يعلمه حالة الارتقاء في البناء الإيماني والروحي لذاته ، الذي تبدأ مراحل انطلاقاته مع بداية شهر رجب المرجب ، بحيث يصل إلى مستويات متقدمة في شهر شعبان المعظم ، لينتقل إلى درجات تكاملية في شهر رمضان المبارك، إلى أن يحظى بتوفيق الله في ليلة القدر المخصوصة ليكون من المخصوصين بإحيائها .
✳ حالة تلازم وتوافق بين الأشهر الثلاث العبادية واستحباب الصيام والذي تؤكده الروايات المتوالية والمستفيضة في عظم ثواب الصيام في هذه الأشهر العظيمة ، وهذا إن دل أنما يدل مال للصيام في هذه الأشهر العظيمة من أثر عظيم وتحفيز البناء الإيماني والروحي في شخصية المؤمن .
✳ أن الروايات المستفيضة والكثيرة في ترغيب المؤمن بصيام من يوم من شهر رجب وأكثر ماهو إلا دليل ما لهذا الشهر من قدر ومنزلة وفضل عند الله ، لأنه فرصةٌ استثنائية لتغيير المسار الحياتي للمؤمن بمرمته ، بحيث أكدت الروايات عن النبي (ص) وأهل بيته(ع) بأن لا يفوت المؤمن الفرصة من التعرض لفيوضات وثواب الصيام في هذا الشهر العظيم ، وهذا ما أكدته الرواية عن الإمام أبي الحسن (ع) قال: رجبٌ شهرٌ في الجنّة، أشدُّ بَياضاً من اللبن وأحلى من العسل، مَن صام يوماً من رجب سقاهُ اللهُ عزّ وجلّ من ذلك النهر.
✳ لو لم يكن عطاء الله من فضل شهر رجب إلا بذلك النداء الإلهي الذي اختص به الرجبيين يوم القيامة لكفى ، بأن يشد المؤمن هممه وطاقاته ، كي لا يحرم من صيام ولو يوم واحد منه ، فعن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) قال : من صام أول يوم من رجب رغبة في ثواب الله عزّ وجلّ وجبت له الجنة ومن صام يوما في وسطه شفع في مثل ربيعة ومضر ، ومن صام يوماً في آخره جعله الله عزّ وجلّ من ملوك الجنة ، وشفعه في أبيه وأمه وابنه وابنته وأخيه وأخته وعمه وعمته وخاله وخالته ومعارفه وجيرانه وإن كان فيهم مستوجب النار .
✳ حالة من التنوع العبادي والروحي يختزله البرنامج العابدي في شهر رجب المرجب كصيام ودعاء ومناجاة وغسل وصلاة ، بحيث يستطيع المؤمن الانصهار مع مختلف أنواع العبادة التي تتناسب معه ، سواء كانت أعمالاً عامةً، أو خاصةً ببعض الأيام ، أو الليالي ؛ لذا نرى أنَّ أغلب الأعمال تشتمل على فنون من العبادة، وليست مقتصرة على فنّ واحد ، مما يشير إلى مجموعة الحوافز التي منحها الله لعبده المؤمن لكي يتزود بالرصيد الكافي من العبادات في هذا الشهر الشريف.
✳ إن المتأمل في أدعية شهر رجب يجدها تحتوي على أساسيات التزود الروحي التي يريدها المؤمن وهي ثلاث مقومات : المقوم الأول : صبر الشاكرين وهو الصبرٌ المُمْتزِجٌ بالشكر ، والمقوم الثاني : عمل الخائفين بحيث لا يكون خوفاً من الذنب والعقوبة، بل خوفاً من الله، فالخوف من العقوبة خوفٌ ذاتيٌّ إنسانيٌّ، بينما الخوف من الله هو خوف من عظمة الله وإجلالُهُ، والمقوم الثالث : يقين العابدين بحي يسعى المؤمن أن يسير في خُطى العابدين، وأصحاب اليقين الذين يقولون: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنَّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
✳ من أهم روافد البناء الروحي والإيماني في شهر رجب المداوة على زيارة المشاهد المشرفة لما لها كم أثر كبير وعميق في نفس الإنسان المؤمن ، وذلك لوجود الأجواء الروحانية التي تنعكس على صفاء الروح والنفس وتبعده عن كل ما يدعو الكدر والعكر والمنغّصات وغير ذلك مما تسببه الاهتمامات المادية في الحياة ، لاسيما زيارة الإمام الحسين (ع) ، وزيارة الإمام الرضا (ع) في غربته، وهي أيضاً لها منزلة في الأجر والثواب العظيم .
✳ توافق في عدد الأشهر مع عدد الأئمة الأطهار ، وهذا مادل الإمام محمد الجواد(ع) في زيارته المخصوصة لأبيه الإمام علي الرضا(ع) في شهر رجب التي صُنفت من أهم المستحبات التي تؤتى بها في هذا الشهر العظيم فقال في زيارته له (ع) : السلام على شهور الحول وعدد الساعات ، ولعل سلامه بصيغة الجمع على ابيه الإمام علي الرضا (ع)،كون الأئمة الأطهار يمثلون حقيقية واحدة تتمازج مع بعضها البعض ولا تنفك عن بعضها المرتبطة بعقيدة الولاية .
✳ من أهم روافد البناء الروحي والإيماني الأعمال المستحبة والمندوبة في شهر رجب هي العمرة الرجبية، ولهذه العمرة منزلة عند الله يذكرها الفقهاء بأنها (تالية الحج في الثواب) كما جاء في الروايات الصحيحة على المؤمن الحرص على الإتيان بها في هذا الشهر قد المستطاع .
✳ شهر رجب من المحطات الزمنية الإلهية التي أمتزج فيها حالات النداء مع الله والدعاء إليه ، واشتركت فيه منازل الرجاء والدعاء و العمل والفقر إلى الله .
✳ يكفي المؤمن في شهر رجب أن يسعى لتطبيق قاعدة : قليل دائم خير من قليل منقطع ، وهي قاعدة تنطبق على ما رواه السيد ابن طاووس عن محمد بن ذكوان، قال: قلت للصادق (ع) علّمني دعاءاً في شهر رجب لعل الله ينفعني به فقال أكتب : يا من أرجوه لكل خير، وآمن سخطه عند كل شر يا من يعطي الكثير بالقليل يا من يعطي من سأله يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة اعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة، فإنه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا النعماء والجود يا ذا المن والطَّول حرّم شيبتي على النار.
✳ بالرغم أن الدعاء الذي علمه الإمام جعفر الصادق (ع) لابن ذكوان قصير ، لكنه يحمل من الدلالات العبادية العميقة لاحتوائه على أربع نداءات سبقت دعاء ،والنداءات الأربعة تتضمن المنازل الأربعة للرحمة الإلهية في حياة الإنسان وهي: الرجاء والأمن ، والعمل ، و الدعاء ، و الحاجة والفقر.
✳ إن الدعاء الذي علمه الإمام جعفر الصادق (ع) لابن ذكوان كي يردده في بعد كل صلاة في شهر رجب مرتبط بنداء الرجاء والأمن بحيث يجعل العبد المؤمن يعيش بين الخط الصاعد والخط النازل في رجاء برحمة الله وفضله وجوده وعطائه، وأمن من عقوبته وعذابه وغضبه.
✳ إن الدعاء الذي علمه الإمام جعفر الصادق (ع) لابن ذكوان كي يردده في بعد كل صلاة في شهر رجب مرتبط بنداء الأمن بين الخوف والرجاء ، لكون الرجاء هو أحد حدّي الأمن، وحدّه الآخر الخوف من الله، فإن الأمن الذي لا يحدّه الخوف من الله يدفع الإنسان إلى معصية الله ، لذا فإن العلاقة القائمة على الرجاء فقط ولا يخالطها الخوف، تُجرّئ الإنسان على معصية الله، ويتسامح صاحبها في مراقبة نفسه من مزالق الأهواء والفتن، وتسمح للشيطان بأن يتسلل إلى نفسه.
✳ إن الدعاء الذي علمه الإمام جعفر الصادق (ع) لابن ذكوان كي يردده في بعد كل صلاة في شهر رجب عطاء مرتبط بمنزل العمل وهو المنزل الثاني لرحمة الله ، بحيث أن الكثير من الجزاء من عند الله يُنال بالقليل من عمل العبد، لاسيما أن العطاء الإلهي على نحوين: عطاء بالمقابلة بدون موازنة ومعادلة لأن عطاء الله لايعادله شيء ، وعطاء بدون مقابل) يا من يعطي من سأله يا من يعطي من لم يسأله) .
✳ إن الدعاء الذي علمه الإمام جعفر الصادق (ع) لابن ذكوان كي يردده بعد كل صلاة في شهر رجب عطاء رباني مرتبط بمنازل الرحمة وهو العطاء بالسؤال والدعاء والطلب ، من غير مقابل ولا عمل ، ( يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة )، والذي لا يسأل ولا يدعو الله في هذا الشهر يُحرم من هذا العطاء الإلهي الواسع والاستثنائي.