صياح الديك الذي لم نعد نسمعه كما كان يسمعه آباؤنا في ماضي الزمان في كل يوم ثلاث أو أربع مرات يتهادى إلى مسامعي بصوت خفيف أتى من بعيد أعقبه زغردة عصفور نادراً ما يحط على أغصان شجرة زرعها جارنا في فناء منزله المجاور لنا, أصوات آتيه تنبئ بإشراقة شمس لاحت في أفق واسع ازدحم بترتيلات السحر وصلوات الليل وأدعية الفجر ( اللهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك ), طرقات تارة ضعيفة وتارة قوية لعرش السماء من أيادي امتزجت إحداها بالدموع ورزحت تحت وطأة التوبة والاستغفار وأخرى بالقهر والوجع تسابق الايادي المضرجة بدماء الظلم والخديعة تشكو الى بارئها ظلاماتها.
وفي مشهد آخر من مسرح هذا اليوم أعين ترقب الصباح ليزاح عنها الخوف وأعين أخرى تنتظر المساء ليُستر عليها, كلها تضج داعية راجية وإني ( أعلم أنك للراجين بموضع إجابة وللملهوفين بمرصد إغاثة ), ومن بين كتل تلك المشاعر التي تطوى مع اشراقة الشمس في بوتقة وتعلق على سقف الأمنيات حتى يطل المساء, وللمساء سراج آخر يضيء بتراتيل أخرى وحكايا مختلفة.
فالنفس تشتهي اشتهاءات مما لذ وطاب من الطعام والشراب في معركة تنافس فيها هذا الجسد مع الروح في العروج نحو السماء ولكن لكل منهما عروج له شأن يغنيه, فشهوة البطن تدار معها الأطباق وتتنوع فيها الأصناف وتمتزج معها شهوة الحواس فتدار الأقمار وتظهر القنوات واحدة تلو الأخرى وهكذا ساعة بعد ساعة حتى تفوح رائحة التخمة والملل فالبطن بعد ساعة الغروب سيعلن عن نفاذ أمده والبصر سيسابق اللصوص في حد بصره إن لم تقف الأقمار عن الدوران في فلك الغفلة والصخب الذي اعتلى مساء يوم من أيام شهر الله وما يوقفها إلا صحوة مساء مختلف.
مساء ينتظر صوت القرآن لا صوت الإعلانات والتغنجات, ينتظر صوت تتزين به المسامع حيث الدعوات وما قد قيل على لسان أهل السماوات تطرح وتوزع البركة في أرجاء الأرض بما رحبت. وفراشات تنتقل بين صفحات الأدعية تمتص رحيق الهدوء والسكينة, ولا بأس بسيناريوهات من الدراما الواقعية المعبرة التي تأخذنا إلى أصعب تضاريس الأرض لنرى أناساً اختلفوا عمن من حولنا أهزلهم الجوع وأضناهم العطش وألهبتهم نار فرعون وجلدتهم سياط السامري واعتلت ملامحهم فقرٌ ويُتمٌ تنتظر دقات قلب تدق لأجلهم وأيادي تمتد لهم وشعور يعايش شعورهم.
وهكذا نتقلب بين غفلة وانتباهه بين شروق شمس يوم من أيام شهر رمضان وغروب ذات شمسه لنعيش حكايا وخبايا, دموع وفرح, أمل وألم, صراع بين الأنا وبين الأشياء, عروج سماوي وآخر لا يكاد يرتفع عن الأرض قيد أنمله.
يوم بكامل ساعاته تؤطره جدران لا يطلع عليها إلا من علم من بداخلها واهتزازات لعرش الرحمن تارة بالخير تهتز وتربت علينا رحمة وتارة بالشر أيضا تهتز وتربت علينا شقاوة وقسوة, وشهوات تموج مع هذه الاهتزازات وذكريات تخزن في ذاكرة الأيام.