ورد عن الإمام الحسن المجتبى (ع): ( نِعْمَ العَونُ الصَّمْتُ في مَواطِن كَثِيرة و َإِنْ كُنْتَ فَصِيحا )( بحار الأنوار ج ٧١ ص ٢٨٠ ) .
لابد أن نتعرّف على حقيقة و مفهوم الصمت بما يخالف ما يخلد في ذاكرتنا بأنه إمساك اللسان فقط، و الحقيقة أن الصمت هو حركة وعي و نضج فكري و معرفة بالعوامل المحيطة بالإنسان كالعامل الزماني و المكاني و الظروف المصاحبة للحدث، فالصمت هنا ضبط إيقاع الحركة اللفظية بما يتناسب مع مبدأ الفائدة و الإثراء و التأثير، فالصمت له نتائجه المثيرة عندما نتوقف عن الكلام الفارغ و الأحاديث العشوائية الضاربة في كل مكان و حدث دون تحديد بوصلة الهدف و الغاية من تلك الحكاية أو الخبر، فليس مطلوبا منا أن ندلو بدولنا في كل شيء و نهرف بما لا نعرف في حقول علمية أو ثقافية أو اجتماعية لا نحسن الأداء فيها، بل تكون عقارب الوعي مضبوطة على النتائج المتوخاة من كل كلمة تصدر منا قبل النطق بها.
و قد تكون الكلمة صائبة و تقارب الحقيقة و لنا عليها مستند يوثقها، و لكنها كالسهم الثاقب تخرج جدار الاحترام و التقدير للآخر و تسبب له الأذى و جرح المشاعر ، و أما التبجح بأنني لا أقول إلا الحقيقة مهما دفعت من أثمان فهو وهم، إذ أن تقبل الآخر لما تتحدث به دون أن يمس كرامته أو يهينه في شيء من خصوصياته مبدأ مهم في حسن التخاطب و تنمية العلاقات الاجتماعي ، فكم من العلاقات تدمرت و أصيبت بالخراب بسبب إصابتها على وتر حساس و هو إيذاء مشاعر الآخر و كسر نفسه، بما يحوّل ساحة النقاش إلى مشهد ساخن تسوده الانفعالات الشديدة، و يتحول إلى ممر من المشاحنات و الخصومات يسهل الولوج إليه.
كما أن الصمت في تأمل للأحداث و المواقف يعني بحثا عن الصورة الواقعية و معرفة بالعوامل المؤدية لذلك و الاحتمالات المتوقعة للنتائج، و بذلك يكون الصمت تغذية راجعة للعقل يستطيع من خلالها ترتيب الأوراق المبعثرة و المتناثرة بعيدا عن التشتت و الحيرة، فقراءة الواقع المعاصر بشكل واقعي يتيح الفرصة للفرد لوضع قدمه على السكة الصحيحة لأهدافه و آماله، و كمسيرة طبيعية متصلة بها هو الاستشراف الصائب للمستقبل و كيف سيكون عليه وجوده في تلك المرحلة.
و أما الصمت أثناء حديث الآخرين يعني حسن الاستماع و فهما لشخصية الآخر و ما يحتويه من أفكار و سلوكيات، و هذا يفرز نتيجة مهمة و هي كيفية التخاطب و تقديم الأفكار و طريقة النقاش الذي يدور معه، فهذا الصمت ما هو إلا عملية إعداد تسبق أي حديث من خلال اختيار الكلمات المعبرة، و التي تتيح لها قبولا في نفس المستمع مع مراعاة الظروف المناسبة لها، حيث قد يكون الكلام واقعيا و منطقيا و لكن انعدام تأثيره يعود لسبب آخر هو وقوعه في غير محله بسبب الظرف الراهن، فالعلاقات الأسرية و الاجتماعية الناجحة تعتمد بشكل أساسي على التخاطب الجيد، فكم من كلمة وقعت في غير محلها ( غير مقصودة ) سببت ألما و انكسارا في نفس الآخر بسبب عدم مراعاة ظرفه أو حالته النفسية.
و لعلنا بصمتنا و نظراتنا الملأى بالكثير من الكلمات تكون أبلغ و أقوى في التأثير من كلمات نتفوه بها، فمن غير المعقول أن ندخل في حوار مع سفيه أو جاهل، أو نرد على كلام بعيد عن المنطقية و العقلانية لا يستحق الرد عليه، و حينئذ نسحب فتيل النزاع أو الدخول في مناكفات لا طائل منها، و ندفع عن أنفسنا استنزاف قوانا النفسية، و نكبر في أعين الآخرين و نحوز على إكبارهم و ثقتهم، لما أبديناه من حكمة و روية في موقف قد ينفعل فيه البعض و ينساق إلى الخلافات و المشاجرات و العلاقات المتوترة.