الترويح عن النفس ببعض اللهو المباح أمر مهم وضروري لكل إنسان، لأن النفس تملّ من الدأب في الجد، وتحتاج إلى بعض التغيير لكسر الملل، وإعادة شحن الهمة، والانطلاق مجددًا نحو الإنتاج. قال سيد البلغاء الإمام علي (ع): "إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فاهدوا إليها طرائف الحكم."
يُقال إن ابن الجوزي البصراوي كتب كتاب "أخبار الأذكياء" ليكون مثالًا يُحتذى به عبر الأجيال، كما أن ذكر أخبار الشجعان يُلهم السامع الشجاعة. وبعد ذلك، قرر ابن الجوزي تأليف كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لثلاثة أسباب:
- أن العاقل إذا سمع أخبار الحمقى والمغفلين، حمد الله على نعمة العقل.
- أن ذكر المغفلين يُنبه المتيقظ إلى تجنب أسباب الغفلة، إن لم تكن الغفلة أصيلة في طباعه.
- الترويح عن النفس ببعض اللهو المباح، دون التعرض للفاحش من القول أو الأفعال.
مواقف طريفة من كتاب أخبار الحمقى والمغفلين
الموقف الأول:
ذهبت امرأة عجوز إلى أحد البيوت لتقديم واجب العزاء في وفاة أحد أفراد العائلة، وعند خروجها لاحظت وجود رجل مسن ومريض يجلس في زاوية المنزل. فأسرعت العجوز راجعةً إلى سيدة المنزل وقالت لها: "لا أعلم إن كنت سأتمكن من العودة لاحقًا، لذا أقدم تعزيتي لكم مقدّمًا في هذا الرجل المسن!"
الموقف الثاني:
تقدم رجل مهتم بالنحو (نحوي) وسأل ابن أخيه عن حال والده، فقال ابن الأخ: "ورمت قدميه." فصحح له النحوي قائلًا: "قل قدماه." فقال ابن الأخ: "فارتفع الورم إلى ركبتاه." فردّ النحوي: "قل ركبتيه." فقال ابن الأخ غاضبًا: "دعني من نحوك هذا، فإن موت أبي أشدّ عليّ من نحوك!"
الموقف الثالث:
أخذ أحد المغفلين يدعو الله قائلًا: "يا منقذ الموتى، ومنجي الغرقى، وراحم العثرات! أنت تجد من ترحمه غيري، وأنا لا أجد من يعذبني سواك!"
الكوميديا بين الماضي والحاضر
هناك العديد من الكتب التي أُلّفت في العصور العباسية وما بعدها، والتي تضج بالطرائف، مثل:
- كتاب البخلاء للجاحظ.
- كتاب الأغاني للأصفهاني.
- حكايات بهلول وغيرهم.
وقد كانت هذه الكتب وما زالت مصدر إلهام لصُنّاع الأفلام الكوميدية الحديثة.
أما في الزمن الحديث، فقد تحولت الكوميديا إلى صناعة تجارية، سواء عبر الأفلام السينمائية (تحت تصنيف "أفلام كوميدية")، أو المسرحيات الساخرة، أو المقالات وأدب السخرية، أو حتى الستاند أب كوميدي.
لكن بعض هذه الكوميديا انحرفت عن مسارها، وأصبح هناك تصنيفات مثل الكوميديا السوداء، والرمادية، والحمراء، بل وأخذ البعض يفتعل مواقف مفبركة عبر "Prank" (الكاميرا الخفية) لجذب أكبر عدد من المتابعين، حتى لو كان المحتوى هابطًا، أو يتضمن تهكمًا على الآخرين، أو استهزاءً بالدين والخالق!
الكوميديا العائلية وانتقاء المحتوى المناسب
شخصيًا، أحرص دائمًا على انتقاء الأفلام الكوميدية قبل أي تجمع أسري، وبعد التمحيص، أقترح على أفراد الأسرة مشاهدتها، لأن معظم الأفلام الكوميدية الحالية تتضمن ألفاظًا لاذعة، ومقاطع مخجلة، تلوث الحياء والبصر.
في المجالس الواقعية
يتبادل الأصدقاء بعض اللطائف والنكت لتعزيز الجو الاجتماعي، بينما في العالم الافتراضي، نجد أن البعض يبالغ في "التحميض" (مصطلح محلي يشير إلى النكت والتعليقات التي لا تصلح للمجالس العامة)، مما يؤدي إلى انحراف الحوار نحو الإسفاف، دون مراعاة تفاوت الأعمار والانطباع المتروك عن المتحدث.
في الديوانيات الافتراضية
للأسف، أصبحت بعض المشاركات الرقمية هابطة لدرجة أنها حطمت النواميس، وهدمت جسور الأدب، وتخطت حدود الأخلاق، بحجة أنها مجرد "تغريدات كوميدية"! لكن الواقع أن هذا الانحراف في المحتوى الرقمي لدى البعض أفسد ساعة الترويح عن النفس، وأخلّ بطرائف الحكم.
الخلاصة
الكوميديا فن راقٍ عندما يكون في إطاره الصحيح، لكنها قد تصبح أداة هدم للأخلاق والقيم إذا لم نضع لها ضوابط. لذا، علينا أن نكون واعين لما نستهلكه ونشاركه، وأن نحرص على اختيار محتوى مفيد يحقق الترفيه دون المساس بالمبادئ.