في عالم التعليم، لا يزال هناك للأسف بعض المعلمين الذين يميلون إلى إصدار أحكام سريعة على الطلاب بناءً على قدرتهم على الحفظ والفهم في بعض المواد الدراسية التقليدية مثل الرياضيات أو اللغة أو الرياضة. قد يتعامل هؤلاء المعلمون مع الطالب الذي يعاني من ضعف في مادة معينة أو عدم قدرته على حفظ المعلومات كما لو كان نقصًا في قدراته الشخصية، بل ربما يقومون بتوبيخه أو التقليل من شأنه بسبب ذلك.
إذ أن الإجبار على الإلمام بجميع المواد الدراسية بنفس المستوى ليس فقط امر غير منطقي، بل يعد ظلمًا بحق الطلاب الذين قد يمتلكون ذكاءات منخفضة او مختلفة عن اقرانهم.
لكن الحقيقة البسيطة التي يجب أن ندركها ونتنبه لها هي (أن الطلاب ليسوا نسخًا متطابقة)؛ فكل طالب يمتلك قدرات واهتمامات مختلفة، وهذه القدرات لا يمكن اختزالها في إطار الدرجات التي يحصل عليها في مادة دراسية معينة ضمن مفهوم امتحان محدد في زمن محدد فالموضوع ابعد من هذا الفكر التقليدي.
▪︎نظرية الذكاءات المتعددة: دعوة لفهم التنوع في القدرات
نظرية الذكاءات المتعددة التي اقترحها عالم النفس هوارد غاردنر في الثمانينات تُعد إطارًا مهمًا لفهم كيف أن الناس يمتلكون أنواعًا مختلفة من الذكاء والقدرة على التعلم.
وفقًا لهذه النظرية، هناك ثمانية أنواع من الذكاء يمكن أن يكون لدى الأفراد بدرجات متفاوتة، بما في ذلك الذكاء اللغوي، الرياضي، المنطقي، المكاني، الموسيقي، الجسدي الحركي، الاجتماعي، والذكاء الشخصي (الذاتي).
هذا التنوع في أنواع الذكاء يعني أن شخصًا قد يكون ضعيفًا في مادة معينة، لكنه قد يتفوق في أخرى. وبالتالي، لا يمكن الحكم على الطالب بناءً على ضعفه في مجال واحد فقط او اثنين، بل يجب النظر في جميع إمكانياته الاخرى.
فلا يوجد انسانا غبيا كليا او ذكيا كليا بل الامر نسبي بين شخصية واخرى من ناحية القوة والضعف بحسب المحددات والاطر التي كونت البصمة الخاصة لهذه الشخصية او تلك من خلال ظروف نشأتها المختلفة.
▪︎التعامل مع الطلاب من منظور مرن ومتعدد الأبعاد .
تخيّل، على سبيل المثال، أن هناك طالبًا يعاني من ضعف واضح في مادة الرياضيات، قد يُقال له من قبل معلمه: "أنت لا تفهم الرياضيات، ولن تنجح أبدًا إذا استمريت هكذا!" هذا النوع من التوبيخ لا يساهم إلا في زيادة الضغط على الطالب ويضعه في زاوية ضيقة، مما قد يؤثر على ثقته بنفسه وربما سببت له هذه العبارة عدم الرغبة في الدراسة إلا مكرها او تركها الدراسة هاربا.
لكن ماذا لو كان هذا الطالب يتقن مهارة إصلاح الادوات او السيارات مثلا؟
ماذا لو كان لديه قدرة مذهلة على فهم الأنظمة الميكانيكية والتعامل معها بشكل فائق؟
مثل هذا الطالب قد لا يتفوق في حل المعادلات الرياضية أو حفظ الاعرابات اللغوية، لكنه يمتلك نوعًا آخر من الذكاء (الذكاء الجسدي الحركي)، الذي يمكنه من التفوق في مجالات أخرى مثل الهندسة الميكانيكية أو العمل في مجالات فنية او تقنية أخرى.
والأمر ذاته ينطبق على طالب آخر قد يكون ضعيفًا في الحفظ والذاكرة، لكنه يمتلك صوتًا قويًا وموهبة في الإنشاد أو الخطابة.
مثل هذا الطالب قد لا يلمع في الفصل الدراسي التقليدي، ولكنه قد يصبح فيما بعد منشدا أو خطيبًا مشهورًا...
لذلك، لا يجب على المعلم أن يلوم الطالب لأنه لا يتقن كل المواد الدراسية بنفس الكفاءة، بل يجب أن يعترف بتنوع القدرات الإنسانية التي وضعها الخالق في عبادة .. والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.. وإلا اصبح جميع الطلاب مستقبلا يعملون في مجال وتخصص واحد!! ولكن بهذا الاختلاف تتنوع مصادر الحياة العملية والخدمية وتعمر الارض من كل جوانبها.
▪︎القدرات ليست ثابتة، فهي تتأثر بالعوامل الوراثية والبيئية
عندما نبحث في القدرات المختلفة للطلاب، يجب أن نتذكر أن هذه القدرات تتأثر بعوامل متعددة، مثل الوراثة والبيئة التي نشأ فيها الطالب...
فبعض الطلاب قد يمتلكون استعدادًا وراثيًا أقوى في مجال معين، بينما قد يكون آخرون نشأوا في بيئات محفزة تتناسب مع تنمية نوع معين من القدرات، لذلك لا يمكن لوم الطالب الذي يعاني من صعوبة في مادة معينة دون مراعاة هذه العوامل الوراثية القهرية الفريدة التي شكلت طريقة تفكيره وتفاعله مع الاحداث والدراسة، وكذلك العوامل البيئية، فالطالب ابن بيئته بسلبياتها وايجابياتها شئنا ام ابينا فهو يعيش بيننا ولم يكن قادما من كوكب المريخ بجينات وصفات مختلفة.
من الأهمية بمكان أن يعترف المعلمون بأنهم في أحيان كثيرة يتعاملون مع طلاب يحملون تاريخًا نفسيًا وجسديًا مختلفًا، وهو ما يساهم في تشكل نمط شخصيتهم وقدراتهم.
بعض الطلاب قد ينشأون في بيئات نموذجية من أجل تنمية مهارات معينة، بينما يواجه آخرون تحديات في بيئات لا تدعم قدراتهم بشكل كاف ولا تشجعهم بل ربما تعرضوا مرارا للحرج والسخرية.
▪︎التقدير والتفهم: المفتاح لنجاح الطالب في المستقبل
كم من معلم فوجئ بعد سنوات بأن أحد طلابه الذين كانوا يعتبرونهم "ضعفاء" أو "غير أكفاء" أصبحوا في المستقبل أطباء أو مهندسين أو مبرجين أو فنانين أو حتى رواد أعمال ناجحين؟
كم من معلم ذهب لصيانة سيارته عند أحد طلابه الذي كان يعاني من صعوبة في مادة الرياضيات؟
وذاك المعلم المريض الذي اجرى له احد طلابه عملية جراحية ناجحة!!
فمثل هذه التجارب المتكررة يجب أن تكون درسًا لكل معلم، هذه هي الحقيقة التي يجب أن يفهمها الجميع: ( ليس بالضرورة أن يكون كل طالب متفوقًا في جميع المواد الدراسية، فكل طالب لديه إمكانياته الخاصة المميزة التي يمكن أن تظهر في المستقبل).
بدلاً من اللوم أو التوبيخ السلبي، يجب على المعلمين تبني نهج أكثر مرونة وتعاطفًا وتفهما، فيجب أن تدركوا أن النجاح لا يتمثل فقط في التفوق الأكاديمي التقليدي والحصول على ورقة الشهادة، بل يتجسد في القدرة على اكتشاف وتنمية الموهبة التي يمتلكها كل طالب من خلال توفير بيئة تعليمية داعمة ومشجعة وجاذبة لا طاردة.
يمكن للمعلمين أن يساعدوا الطلاب على استكشاف قدراتهم وتنميتها في مجالات مختلفة تصب في نهاية المطاف في خدمة المجتمع والتطور العام للبلاد.
▪︎استخدام أساليب متنوعة في التعليم .
من المهم أن يعتمد المعلمون أساليب متنوعة لتلبية احتياجات جميع الطلاب، مثل استخدام التكنولوجيا الحديثة، الألعاب التعليمية، والأنشطة العملية التي تسمح للطلاب بالتعلم بالطريقة التي تناسبهم وتوصيل المعلومات الى عقولهم باريحية وسهولة لو بنمط غير مباشر.
▪︎خاتمة: التنوع في القدرات هو ما يجعل كل طالب مميزًا .
الطلاب ليسوا مجرد أرقام أو درجات اختبار في مادة معينة ترفع من شأنه او تنزله مدارج الفاشلين، بل هم أفراد يمتلكون حساً مرهفا وإمكانيات متعددة، من الضروري أن يتفهم المعلمون أن كل طالب لديه قدراته الخاصة الاستثنائية التي قد لا تظهر دائمًا في الفصل الدراسي التقليدي وانما تظهر في مجالات وتخصصات اخرى نستكشفها ونحاول ان نوجهه اليها.
السعادة والنجاح لا يتحققان دائمًا من خلال التفوق في فهم الرياضيات أو في قوة الحفظ النظري لبعض النصوص، بل من خلال اكتشاف وتطوير القدرات الفريدة التي تميز كل طالب عن غيره.
لذا يجب على المعلمين والمرشدين ايضا أن يكونوا متفهمين وصبورين، وأن يدركوا أن عدم تفاعل الطالب مع مادة ما لا تعني ان لديه مشكلة ولا تعني انه يجب عليه اعادة سنة اخرى ولا يعني بالضرورة فشله في الحياة المستقبلية... بل تفهم وتقبل اسرة التعليم لظروف مكونات شخصيته الشاملة وتنميتها هو النجاح الحقيقي له ولكم ايها الرائعون.
التعليقات 6
6 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
بدر السالم
2024-12-17 في 10:56 ص[3] رابط التعليق
تحية كبيرة للأخ العزيز الكاتب المبدع أبا مهدي..
مقال مهم جدا ويلامس الواقع ، وطرح جملة من الملاحظات داخل المجتمع المدرسي، وأصاب في جزء كبير منها..
يجب أن نعلم أن المهام المنوطة بالمعلم كبيرة جدا ، فهو لا يملك العصا السحرية في اكتشاف دوافع ومكنونات جميع الطلاب ، فأعداد من يمرون عليه من الأجيال كثر ، وذاكرته ربما لا تسعفه حتى في تذكر أسمائهم، فهو يقوم بوظيفة التعليم ومطلوب منه أن يربي ويهذب وينصح ويعطف ويساعد في ظل متطلبات التعليم التي تزداد وفق مقتضيات التطور الحاصل.
في المدرسة موجه طلابي وظيفته فوق ما يتصور البعض ، لكن القلة منهم من يقومون بهذا الدور ويغطي احتياحات الطلاب.
الأسرة التي لا تساعد أبناءها في معرفة توجهاتهم وميولهم لا تخرج من دائرة اللوم.
المناهج التي لا تركز على المهارات وتعتمد بنسبة كبيرة على الجانب النظري لا تخرج من دائرة اللوم كذلك.
طريقة التقييم والاختبارات وضغوطات مساراتها،كذلك لها جزء من التأثير.
هذا ما لدي وأسأل للجميع التوفيق.
سهام البوشاجع
2024-12-18 في 5:51 ص[3] رابط التعليق
أحسن الكاتب والمعلق عليه
عبدالله البراهيم
2024-12-18 في 11:08 م[3] رابط التعليق
احسنت استاذ ابومنذر ..
اضافة مكملة .. وشكرا لتفهمك ..
مواطن
2024-12-17 في 12:13 م[3] رابط التعليق
الذكاء مستويات ومستوى الفهم ايضا مستويات والناس طبقات
والبيئة لها دور والظروف ايضا فامنعوا التوبيخ والضرب والسخرية
في المدارس للمعلمين والمعلمات اتجاه الطلاب والطالبات
غير معروف
2024-12-19 في 1:37 ص[3] رابط التعليق
هذا المقال يعكس رؤية عميقة وشاملة عن دور المعلمين في تفهم التنوع بين الطلاب والابتعاد عن التقييمات السطحية المبنية على الأداء في مواد معينة. إن تبني نظرية الذكاءات المتعددة في التعليم يمكن أن يسهم بشكل كبير في تعزيز ثقة الطلاب بأنفسهم وإطلاق العنان لقدراتهم الفريدة.
من المهم أن يعمل المعلمون على خلق بيئة تعليمية تشجع على اكتشاف وتنمية المواهب المختلفة بدلًا من الاقتصار على معيار الدرجات التقليدي. فالتنوع هو ما يجعل كل طالب مميزًا، وهو ما يثري المجتمعات على المدى الطويل.
مقال مُلهم ويستحق أن يكون دعوة للتغيير في أنظمة التعليم وأساليب التدريس.
عبدالله البراهيم
2024-12-19 في 1:39 م[3] رابط التعليق
شكرا لتأكيدك وقراءتك الواعية ..