إنه في عام ( 1430هـ ــ 2009م ) ولعله في شهر ربيع الثاني منه ، انتشرت إشاعة بسرعة البرق عمت جميع مناطق ومدن المملكة وبعض الدول الخليجية والعربية ، ومن ضمن المناطق التي تأثرت بذلك منطقة الأحساء ، حيث سرت هذه الاشاعة بين الناس وصدقها الكثير منهم وهي ، شائعة أن ماكينة الخياطة من نوع سنجر أبو أسدين والفراشة القديمة يوجد بها ( زئبق أحمر ) نادر وغالي الثمن ، وهناك شركات عالمية تريد شراء هذه المكائن من هذا النوع والتي يحتفظ بها الناس في منازلهم ، وذلك مما أدى إلى نفير غير مسبوق وتهافت كبير على شراء هذه المكائن ، وقد جابت الناس الأسواق ومحلات الخردة للعثور على هذا النوع من المكائن ، مما رفع سعرها إلى عشرات الألوف من الريالات ، وقد بحث الناس في منازلهم ومخازنهم لعلهم يجدون عدد منها لبيعها على السماسرة الذين يريدون شراءها ، ومن ثم بيعها على وكلاء لهذه الشركة المزعومة .
وقد انتشرت الإشاعة على أن الزئبق الأحمر لا يتواجد إلا فيها وذلك بفعل شحه وعدم تواجده في المصانع العالمية ، وميزة هذا الزئبق الأحمر أنه يدخل ضمن عناصر مركبة يستخدم في تشغيل الطائرات ، ويتفاوت سعر الماكينة بفعل الزئبق في كل واحدة منها ، وقد وجد بعضهم نفسه وقد أصبح مهندساً عالميناً لا يشق له غبار ، وذلك بفعل أخترعه لطريقة الكشف عن الزئبق بوضع جهاز الجوال تحت الإبرة فإذا اختفت الأبراج من الجوال معنى ذلك أن الزئبق موجود فيها فيرتفع ثمنها ، وعن أين يتواجد هذا الزئبق فقد سرت معلومات أنه في إبرة كل ماكينة .
وقد صار الوضع مربك والناس في هلع ما بين عارض لما يملكه من هذه المكائن وما بين مصدق ذلك وغير مصدق لذلك ، ولكن الوضع المربك للجميع يجعل من ذلك خبراً صحيحاً فحشراً مع الناس عيد ، والبعض ذهب إلى منازل أجداده وآبائه القديمة للتفتيش عن هذه المكائن ، ومنهم من أصبح مسروراً لعثوره على ماكينة أو أكثر لأجل بيعها بثمن مرتفع ومن ثم تحسين وضعه الاقتصادي ، في حين فكر بعضهم في شراء ما ينقصه من سيارة أو منزل أو حتى أرض للمستقبل ، وصار الناس في هرج ومرج من قوة وانتشار هذه الخرافة ، والتي لم تشهد المملكة إشاعة بقوتها وسعة انتشارها وسرعة تفشيها في المجتمع ، وقد طالب البعض من الجهات المعنية توضيح الأمر ، حتى لا يستغل السماسرة الناس الضعفاء في الشراء وذلك بأقناعهم أنها سوف يرتفع سعرها ، وأصبح الوضع وكأنه بورصة أسهم عروض وطلبات كثيرة دون شراء أو بيع ، وعندما تذهب إلى هذه الأسواق تجد الناس مصطفين وعارضين ما لديهم من هذه المكائن ينتظرون من يأتي لشرائها وهم في حالة تعجب من شياع هذا الأمر والذي ليس على البال ولا على الخاطر ، من حيث استغلال الفرص والتي تمر كمر السحاب ، ومن باب الغنى السريع دون أصول مالية ولا رؤوس أموال .
وبعد فترة خف وهج هذه الخرافة ورجع الناس إلى عقولهم وفكروا قليلاً ، ماذا فعلنا ولماذا صدقنا مثل هذه الخرافة ، وخصوصاً أن سعر الزئبق الأحمر أغلى من المكينة نفسها فكيف يتم وضعه في مكينة لا يتعدى سعرها 200 ريال ؟ وأن عددها في العالم بمئات الملايين فأي زئبق سوف يكفي لذلك ؟ وأن الشركة التي طلبت شراء ذلك شركة روسية فكيف يتم نقل هذه الأعداد الهائلة من المكائن الثقيلة إلى روسيا ؟ وأن الماكينة أصلاً هي مصنوعة من الحديد فما علاقة الزئبق بالحديد فهي تعمل تلقائياً بتحريكها يدوياً بفعل الدوران يتم تحريك الإبرة التي تخيط الملابس !! .
بعد ذلك انكشف الخبر أن هذه الإشاعة أو الخرافة كانت قادمة من دولة عربية ( الأردن ) وأن مصدرها من هناك ومن الريف الشمالي بالتحديد ، عندما اختلقوا هذه الإشاعة مجموعة من الشباب ممن يسكنون هذه الناحية من المملكة ، لكن لم يتضح على وجه الدقة القصد منها ، فقد قيل هي لعبة لعصابة أرادت الاحتيال على الناس باختلاقهم هذه الإشاعة ، وقيل لا بل بدون قصد ما هي إلا فكاهة أو سذاجة ، لكن أي القصدين صحيح ، فقد أخذت هذه الخرافة مكانها من بين أكبر الخرافات التي انتشرت في المحيط العربي في العصر الحاضر ، مع العلم أن الزمن زمن تطور وعلم وانفتاح إلا أن الخرافة والأسطورة لا زالت حية بيننا متى ما حصل من يوقضها ويمهد لها الطريق ، ومن باب ( حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له ) .
وبعد فترة من حدوث هذه الخرافة اسدل الستار عليها ، وظلت مدونة كخرافة في عقول الناس يتناقلونها شفهياً فيما بينهم وينقلها الجيل الذي عاصرها للجيل الذي بعده ، وانطوت صفحة ضبابية تحير فيها الناس ما بين معتقد بما حصل وما بين مندهش جراء ذلك ، وفي الأخير نقول أن المجتمع ومهما تطور وكثرة العلوم والاكتشافات فيه ، إلا أنه يبقى متعطش إلى مثل هذه الخرافات بين حين وآخر ، لأن مثل ذلك يعتبر جزء من حياة المجتمع لا يستغني عنه ولو من باب الفكاهة والوناسة ، والتي لا يختلف أثنان على أهميته الحياتية لميل النفوس البشرية وجبلها على ذلك وهو حب الترويح والترفيه عن النفس بغض النظر عن مكانة الشخص العلمية والاجتماعية ودراسته الأكاديمية وحتى الدينية .
وهذه الخرافات مفتوحة على جميع النواحي والاتجاهات ، فليس في الناحية الاجتماعية فقط ، بل طالت كذلك المجال الفلكي والسماواتي والملكوتي والملائكي ، فقد قيل أن من يناظر السماء أو النجوم يستوي له فألول في عينيه ، وان الحوت يأكل من القمر فلذلك يحصل الخسوف ، كذلك من لديه شامة في أصابعه فلكي تعرفه الملائكة منها يوم القيامة وقد يصبح ملكاً ، وحتى في الجانب الديني لم يسلم من ذلك فقد سمعنا عن بعض هذه الخرافات ، والتي من المفترض أن يكون هذا الجانب محصناً لا تأتيه الأباطيل لا من بين يديه ولا من خلفه ولا يتم التطرق له إطلاقاً ، كقصة بائع البصل الذي لم يستطيع بيعه ، فألف حديثاً : ( من أكل من البصل عكة كمن زار مكة ) فتهافت الناس عليه لشرائه وتم بيع جميع الكمية الموجودة عنده في أسرع وقت ، أو أن كل مسلم عندما بوضع في قبره يأتون إليه الملائكة ويضربونه على رأسه بمطارق من الحديد ، أو قول أن كل الناس سوف يردون النار وهكذا ، كما نقول أنه لا يستبعد حصول مثل هذه الخرافات والأساطير مستقبلاً سواء القريب منه أو البعيد ، وذلك من خلال أن الأرضية محتاجة مثل هذه الصدمات بين حين وأخر حتى يستيقظ المجتمع من ما عليه من سبات في نظم أموره ، كما يفعل بمن يتوقف قلبه من صعقه كهربائية.